بدأنا هذه الحلقات للتحدث حول سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، عن نسبه صلى الله عليه وسلم والحكمة من اختيار جزيرة العرب محاولة منا للتطرق إلى كل الظروف المحيطة بهذا الحدث الجلل الذي غيّر جزيرة العرب ومجرى التاريخ، سنتحدث في مقال اليوم حول التهيئة الاقتصادية والاجتماعية التي هيّأ الله بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
التهيئة الاقتصادية والاجتماعية
- سفره إلى الشام في تجارة خديجة بنت خويلد وَمَا كَانَ مِنْ بَحِيرَى
كما عمل النبي صلى الله عليه وسلم في رعي أغنام أهل مكة، لمساعدة عمه أبي طالب على مواجهة تكاليف الحياة، عمل كذلك للغرض نفسه في التجارة، في مال خدية بنت خويلد، فسافر فيه إلى الشام، يقولَ ابْنُ إسْحَاقَ في سيرته:
{وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ في مَالِهَا، وَتُضَارِبُهُمْ إيّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجّاراً، فَلَمّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَلَغَهَا مِنْ صَدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلاَقِهِ، بَعَثَتْ إلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إلَى الشّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيهِ أَفَضْلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنْ التّجّارِ، مَعَ غُلاَمٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةَ، فَقَبِلَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَخَرَجَ مَالِهَا ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلاَمُهَا مَيْسَرَةُ حَتّى قَدِمَ الشّامَ، فَنَزَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنْ الرّهْبَانِ، فَاطّلَعَ الرّاهِبُ إلَى مَيْسَرَةَ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرّجُلُ الّذِي نَزَلَ تَحتَْ هَذِهِ الشّجَرَةِ؟ قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرِمِ، فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ مَا نَزَلَ تَحتَْ هَذِهِ الشّجَرَةِ قَطّ إلاّ نَبِي.}
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السفر لخديجة بربحٍ عظيم، وضاعفت له هي الأخرى ما كانت تعطي لغيره من الأرباح أو الأجور، ولكن عندما استمعت إلى حديث غلامها ميسرة، عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته، وكلام الراهب عن نزوله تحت الشجرة، وإظلال الملكين له عندما تشتد حرارة الشمس، وهو يسير على بعيره، استشفت خديجة بفراستها وشدة توقد ذكائها وفطنتها وراء الحجب، ما تدّخره الأيام، وتخفيه الأقدار لهذا الشاب القرشي من المفاجآت الغريبة، وعظائم الأمور والمواقف الخطيرة، فاشتاقت نفسها إلى ما هو أعظم من الأموال والأرباح، وهو السعادة الدنيوية والأخروية التي تكمن في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها رضي الله عنها.
- زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، أما خديجة فقد كان عندها أربعون سنة من العمر، وبذلك تحققت لها أمنيتها، وتم الزواج بحضور عمها عمرو بن أسد، وبعض أعمام النبي صلى الله عليه وسلم بزعامة أبي طالب، الذي خطب في هذه المناسبة خطبته المشهورة، يقول ابن هشام في سيرته وما بعدها: «وَكَانَتْ خديجةُ امْرَأَةً حَازِمَةً شَرِيفَةً لَبِيبَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهِ، فَلَمَّا أخبرها ميسرة مما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ فِيمَا يزعمون: يابنَ عَمِّ، إنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِيكَ لِقَرَابَتِكَ وسِطَتِكَ قومِك وَأَمَانَتِكَ، وحسنِ خُلقك، وَصِدْقِ حَدِيثِكَ، ثُمَّ عرضتْ عَلَيْهِ نفسَها، وَكَانَتْ خديجةُ يَوْمئِذٍ أوسطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وأعظمهنَّ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُنَّ مَالاً، كُلُّ قومِها كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ منها لو يقدُرُ عليه، فَخَطَبَهَا إليه، فتزوجها
بهذا الزواج افتتح النبي صلى الله عليه وسلم صفحة جديدة من حياته، وهي صفحة الزوجية السعيدة، والأبوة البرة الرحيمة، فرزق منها بأولاده جميعاً إلا إبراهيم، الذي كانت أمه مارية القبطية، يقول ابنُ إسْحَاقَ في سيرة ابن هشام: {فَوَلَدَتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولدَه كُلَّهم – إلاَّ إبْرَاهِيمَ-: القاسمَ وبه كَانَ يُكْنَى صلى الله عليه وسلم، والطاهرَ وَالطَّيِّبَ، وزينبَ ورقيّةَ، وأمَ كلثوم، وفاطمةَ، عليهم السلام … فَأَمَّا الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَمَّا بناتُه: فكلُّهنَّ أدركْنَ الإسلامَ، فَأَسْلَمْنَ وهاجرنَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم.}
أقول: إن بناته كنّ أكثر حظاً من أبنائه صلى الله عليه وسلم – لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى -، من طول العمر، والزواج الذي به تعدّى نسبه الشريف إلى من بعدهنّ، وسعدوا بشرف الانتماء إليه صلى الله عليه وسلم ، ومن الإسلام، والهجرة إلى المدينة المنوّرة، وكانت السيدة خديجة مثلاً أعلى لما ينبغي أن تكون عليه الزوجة من الوفاء والإخلاص طوال الخمسة عشر سنة التي عاشتها معه صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة، ثم كانت أول من آمن به بعد الرسالة، وكانت له عونا على تحمل أذى قريش في تبليغ الرسالة، فهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
الدروس والتجارب المستفادة
- إنَّ الأمانة، والصِّدق أهمُّ مواصفات التَّاجر النَّاجح، وصفة الأمانة، والصِّدق في التِّجارة في شخصية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، هي الَّتي رغَّبت السَّيدة خديجة في أن تعطيه مالها ليتاجر به، ويسافر به إلى الشَّام، فبارك الله لها في تجارتها، وفتح الله لها من أبواب الخير ما يليق بكرم الكريم.
- إنَّ التِّجارة موردٌ من موارد الرِّزق الَّتي سخَّرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقد تدرَّب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على فنونها، وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ التَّاجر الصَّدوق الأمين في هـذا الدِّيـن يُحشر مع النَّبيِّين، والصدِّيقين، والشُّهـداء، وهـذه المهنة مهمَّـة للمسلمين، ولا يقع صاحبها تحت إرادة الآخرين، واستعبادهم، وقهرهم، وإذلالهم؛ فهو ليس بحاجة إليهم، بل هم في حاجة إليه، وبحاجةٍ إلى خبرته، وأمانته، وعفَّته.
- كان زواج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم للسَّيدة خديجة بتقدير الله تعالى، ولقد اختار الله – سبحانه وتعالى – لنبيِّه زوجةً تناسبه، وتؤازره، وتُخفِّف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرِّسالة، وتعيش همومه.
- الحكمة البالغة – ألا يعيش له صلى الله عليه وسلم أحدٌ من الذُّكور، حتَّى لا يكون مدعاةً لافتتان بعض النَّاس بهم، وادِّعائهم لهم النُّبوَّة، فأعطاه الذُّكور تكميلاً لفطرته البشرية، وقضاءً لحاجات النَّفس الإنسانيَّة، ولئلا يتنقَّص النَّبيَّ في كمال رجولته شانئ، أو يتقـوَّل عليه متقوِّلٌ، ثمَّ أخذهم في الصِّغر، وأيضاً ليكون ذلك عزاءً، وسلوى لِلَّذين لا يُرزقون البنين، أو يُرزقون ثمَّ يموتون، كما أنَّه لونٌ من ألوان الابتلاء، وأشدُّ النَّاس بلاءً الأنبياء [الترمذي (2398) وابن ماجه (4023)] ، وكأنَّ الله أراد للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل الرِّقَّة الحزينة جزءاً من كيانه؛ فإنَّ الرِّجال الذين يسوسون الشُّعوب لا يجنحون إلى الجبروت، إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة، والأثرة، وعاشت في أفراحٍ لا يخامرها كدر، أمَّا الرَّجل الَّذي خبر الآلام؛ فهو أسرع النَّاس إلى مواساة المحزونين، ومداواة المجروحين .
- يتَّضح للمسلم من خلال قصَّة زواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من السَّيدة خديجة، عدم اهتمـام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسديَّـة، ومكمِّلاتها، فلو كان مهتماً بذلـك – كبقيَّة الشَّباب – لطمع فيمن هي أقلُّ منه سناً، أو فيمن لا تفوقه في العمر، وإنَّما رغب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لشرفها، ومكانتها في قومها؛ فقد كانت تلقَّب في الجاهلية بالعفيفة الطَّاهرة.
- في زواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من السَّيدة خديجة ما يلجم ألسنة وأقلام الحاقدين على الإسلام، من المستشرقين وعبيدهم العلمانيِّين، الَّذين ظنُّوا أنَّهم وجدوا في موضوع زواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مقتلاً يصاب منه الإسلام، وصوَّروا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في صورة الرَّجل الشَّهوانيِّ الغارق في لذَّاته، وشهواته، فنجد: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئةٍ جاهليَّةٍ عفيف النَّفس، دون أن ينساق في شيءٍ من التَّـيَّـارات الفاسدة؛ الَّتي تموج حوله، كما أنَّه تزوَّج من امرأةٍ لها ما يقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتدَّ عيناه إلى شيءٍ ممَّا حوله، وإنَّ ما حوله الكثير، وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشَّباب، ثمَّ الكهولة، ويدخل في سن الشُّيوخ، وقد ظلَّ هذا الزَّواج قائماً حتَّى توفِّيت خديجة رضي الله عنها عن خمسةٍ وستين عاماً، وقد ناهز النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الخمسين من العمر، دون أن يفكِّر خلالها بالزَّواج بأيِّ امرأةٍ أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزَّمن الَّذي تتحرَّك فيه رغبة الاستزادة من النِّساء، والميل إلى تعدُّد الزَّوجات للدَّوافع الشَّهوانية؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر في هذه الفترة في أن يضمَّ إلى خديجة مثلها من النِّساء، زوجةً، أو أمَةً، ولو أراد؛ لكان الكثير من النِّساء، والإماء طوعَ بنانه.