الحلقة الخامسة: التهيئة النفسية والتربوية

التهيئة النفسية والتربوية

بدأنا هذه الحلقات للتحدث حول سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتطرقنا في مقالات سابقة حول تهيئة النبي صلى الله عليه وسلم من سياسيًا واقتصاديا واجتماعيًا محاولة منا للتطرق إلى كل الظروف المحيطة بهذا الحدث الجلل الذي غيّر جزيرة العرب ومجرى التاريخ، سنتحدث في مقال اليوم حول التهيئة النفسية والتربوية‎ التي هيّأ الله بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

التهيئة النفسية والتربوية

اختار الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يُولد يتيم الأب، حيث مات أبوه عبد الله، وهو جنين في بطن أمه، وتزوج عبد الله من آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فبنى بها في مكة، وبعد قليل أرسله عبد المطلب يمتار لهم تمراً من المدينة، فمات بها، وكانت وفاته قبل أن يُولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاش يتيماً، يزهد فيه الناس ويتوارون عنه، حتى المرضعات اللاتي يأتين من البادية كلهن زهدن فيه لَمَّا علمن يتمه، ولم تأخذه إلاَّ حليمة مرغمة إذ لم تجد غيره، وكم هو قاس على قلب طفل صغير أن يُحرم من كلمة “أبي” مثل أقرانه، وأن يُحرم من عطف الأب وحنانه.

ولكن لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يتعرض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لنوعٍ آخَر أشد وأقسى من اليتم، ولكن هذه المرة يفقد أمه آمنة، فتموت أمه وهو طفل لم يتجاوز السادسة من عمره، نعم، تموت نبع الحنان ومصدره في هذه الحياة ليبقى طفلاً وحيداً في هذه الدنيا بغير أب أو أم.

ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد؛ بل يموت جده لأبيه عبد المطلب، وكان أرأف الناس بحفيده صلى الله عليه وسلم إذ انتقل معه في بيته ليعيش في كنفه ورعايته، ولكن الموت لم يمهله، فيموت وعمره الشريف صلى الله عليه وسلم ثمانية أعوام.

فينتقل إلى عمه أبي طالب ليعيش معه، ولكن كان أبو طالب كثير العيال، قليل المال رغم حسبه ونسبه ومكانته في قومه، فينهض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صبي يرعى الغنم ليخفف من عبء عمه أبي طالب.

لقد اختار الله تعالى لنبيه الكريم اليُتم لحِكم بالغة وأهداف سامية، لكنه تبارك وتعالى لم يترك خليله، ولم يتخل عنه، بل امتن عليه سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]، فالله تعالى هو الذي آواه ورعاه ورباه، والحِكم والعبر من وراء يتمه صلى الله عليه وسلم، كثيرة، ومنها:

أولاً:  

كمال القدوة وشمولها: قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسوة لكل البشر، كبيرهم وصغيرهم، ومن بين الصغار كان اليتامى، ومن بين اليتامى كان يتيم الأب أو الأم أو كلاهما، فكان تحقيقاً لكمال الأسوة النبوية أن يكون يتيم الأب والأم؛ ليجد فيه اليتيم أسوته وقدوته، فهنيئاً للأيتام تشبههم برسولهم الكريم، وهنيئاً لهم اشتراكهم معه صلى الله عليه وسلم في صفةٍ من صفاته وهي اليتم.

ثانياً:  

ومن الحكم الظاهرة من يتم النبي صلى الله عليه وسلم: أن ينشأ صلباً قوياً بعيداً عن الترف والدعة، فالله عز وجل يؤهل نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم لأعظم مسؤولية في التاريخ والكون، وهي حمل رسالته وتبليغها إلى البشرية كلها، فكان لا بد أن يتدرب على تحمل المسؤولية منذ صغره، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف منذ صغره حياة الترف والنعومة، وإنما عاش حياة الفقر والخشونة، فرعى الغنم وهو صبي صغير، وقد أخبر أصحابه رضي الله عنهم، بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ)، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّة رواه البخاري. 

وقد تعلم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم – منذ نعومة أظفاره – من الرعي سعة الصدر، وطول البال والصبر، واليقظة على رعيته، والعناية بها، والذود عنها، وجمع شاردها، كل هذه الصفات وغيرها ما كان له أن يتعلمها لو عاش في كنف والدين يحملان عنه عبء الحياة، نعم – أيها الإخوة – إن اليتم في جانبٍ منه شاق وعسير، ولكنه في جوانب أخرى قد يكون دافعاً للنجاح في الحياة والتقدم فيها، فالمنحة قد تولد من المحنة، والواقع يؤيد ذلك، فكم من يتيم نجح في حياته وبلغ أعلى المناصب، وكم ممن تربَّوا في كنف أمهاتهم وآبائهم ركنوا إليهم ففشلوا في حياتهم. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهض للمسؤولية، فيحمل الرسالة ويبلغها كاملة متحملاً الصعاب في ذلك.

ثالثا:  

ومن الحكم الظاهرة من يتم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينسب الفضل كله في حياة النبي إلى الله عز وجل، وقد قال الله تعالى ممتناً على نبيه في ذلك: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 6-8]. 

إن الأنبياء جميعاً صِنعة الله تبارك وتعالى، صُنعوا على عينه برعايته وتدبيره لهم، فلا يُتركون وشأنهم وإنما يتعدهم ربهم جل وعلا، فانظروا إلى يوسف الصديق – عليه السلام – خرج صبياً صغيراً من بيت أبيه، فذهب إلى عزيز مصر، حيث الكفر والشرك، فمَن الذي تعهَّده ورباه ورعاه؟ إنه الله تعالى، فهذا يوسف في السجن يدعو إلى التوحيد قائلاً: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]، وها هو موسى – عليه السلام – حفظه ربه ورعاه؛ بل قال له: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]؛ ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه: 41]، فكانت في موسى – عليه السلام، ولكننا وجدناها تحققت في جميع الأنبياء، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

فالله سبحانه هو الذي صرف نبينا محمداً عن عبادة الوثن والصنم، وعن الفواحش والمحرمات في مجتمعٍ جاهلي مليء بالفتن؛ بل يُشتهر عنه – منذ صغره – الصدق والأمانة، فيُلقَّب بالصادق الأمين ؟! إنه الله تعالى الذي عصمه وربَّاه وآواه وعلَّمه، قال الله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].

رابعا: 

إبعاد الشكّ والتُّهم في أن هذا الدين كان من توجيه وإرشاد وتربية أبيه وجدّه له؛ خاصة وأن جدّه عبد المُطلب كان من كبار قُريش وأسيادهم.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *