الدولة العباسية

الدولة العباسية

خالفت الدولة العباسية أسلوب الشورى المتبع منذ عهد الخلفاء الراشدين، وبداية الدولة الأموية؛ حيث تنازل الحسن بن علي الخليفة الشرعي للمسلمين لمعاوية بن أبي سفيان لحفن دماء المسلمين، فيما سمي عام الجماعة بعد سلسلة المعارك التي حدثت بسبب مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ بيد أن معاوية حولها إلى الأسلوب الوراثي.

الدولة العباسية 132هـ/750م – 922هـ/1517م 

اعتمد العباسيون أسلوب الثورة المسلحة وأسسوا لفكرة التغلب والسيطرة بالقوة المسلحة، وشابهوا الأمويين في جعل الخلافة وراثية، مما أطلق العنان لأي قوة أخرى من اتباع نفس الاسلوب، فذاقت الدولة العباسية من نفس الكأس، وتفككت إلى دول مستقلة أو تتبع اسميا الخلافة العباسية، وفي زمن الفاطميين أصبح للمسلمين ثلاثة خلفاء في بغداد والقاهرة والأندلس.

وتنقلت عاصمتها بين 4 مدن كما يلي:

  1. الكوفة 132هـ/750م -148هـ/766م (فترة التأسيس)
  2. بغداد 148هـ/766م ـ 221هـ/836م (العصر الذهبي)
  3. سامراء 221هـ/836م – 278هـ/892م (عصر تحكم العسكر التركي)
  4. بغداد 278هـ/892م – 656هـ/1258م (عصر تحكم العسكر التركي والفارسي والسلجوقي ثم المغولي)
  5. القاهرة 659هـ/1261م -922هـ/1517م(عصر تحكم العسكر المملوكي حيث أصبح الخليفة العباسي مجرد رمز روحي يملك ولا يحكم)

على الرغم من الفتن والحروب الداخلية والغزو الخارجي الذي ميز عصر الخلافة العباسية إلا أنها شهدت نهضة حضارية تمثلت في تطوير واستحداث العلوم الشرعية التي تميزت بها الأمة الإسلامية كعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، وتطوير كافة العلوم الأخرى، كاللغة والأدب والفلسفة وعلم الكلام والعلوم العلمية، والطبية، وعلوم الفلك والتاريخ والجغرافيا؛ مما مهد لبروز المخترعات التي كانت الأرضية الصلبة لنشوء وتطور الحضارة الغربية الحديثة، ولولا اسهام العلماء المسلين في شرح وترجمة وتطوير وتصحيح علوم الأغريق والفرس والهنود والصينين لتأخرت الحضارة الحالية قرونا أخرى. وفيما يلي مختصرا لأبرز العلوم التي استحدثت وتطورت:

  • استحداث وتطوير كافة العلوم الشرعية، والتي تميزت بها الأمة الإسلامية: 

علوم القرآن فما أن أتم الخلفاء الراشدون حفظ كتاب الله، وانتشرت نسخ المصحف العثماني في الأمصار؛ حتى بدأت ونضجت جهود العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم، والتي عدها السيوطي ثمانين نوعا، ويمثل كتاب تفسير الطبري المتوفي 303 هـ المرجع الرئيسي لعلم التفسير بالمأثور.
علوم الحديث النبوي الشريف؛ حيث أتم علماء الحديث جمع الحديث النبوي وتصنيفه في المصنفات المختلفة، كان أبرزها موطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، وصحيحي البخاري ومسلم، كما شملت علوم الحديث دراسة الأسانيد، ومتون الحديث لتمييز الصحيح والضعيف منها؛ مما استدعى تطور هلم الرجال، وهو العلم الذي يبحث في أحوال الرواة توثيقا وتجريحا، وغيرها من العلوم كشرح الحديث، واستنباط الأحكام الفقهية، وتمييز الأحاديث حسب ورودها الى المقبول والمردود.
علم الفقه وأصوله، وتبخث في كيقية الاستدلال على الأحكام الفقهية، وتبيين الحكم الشرعي التفصيلي لكافة شؤون المسلمين من عبادات كالصلاة والصوم ومعاملات مالية وكيفية التعامل مع غير المسلمين/ وغير ذلك، وقد استقرت المدارس الفقهية إلى اريعة مدارس هي: مدرسة المالكية والأحناف والحنابلة، والشافعية، ويعتبر كتاب الرسالة أول كتاب في اصول الفقه؛ حيث وضع الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد لبيان الأحكام الشرعية لكل حديث ومستحدث في كل عصر.

  •  العلوم الأخرى: 

كما تطورت علوم اللغة واللسانيات والشعر والأدب، وعلوم الجغرافيا، والتاريخ، والفلك، والطب،والرياضيات، والكيمياء، والفيزياء، والبصريات، وعلم الروافع، وميكانيكا الحركة، واستخدام البخار في الحركة،وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في عصور من الظلام والانحطاط، كانت الحضارة العربية القديمة تقدم للبشرية جمعاء أفضل الإنجازات العلمية في عصرها الذهبي، عندما كانت مدن مثل بغداد والقاهرة ودمشق والقيروان وفاس وقرطبة تعج بالعلماء والمخترعين والصناع المهرة، الذين قدموا العديد من النظريات العلمية، التي نحيا بها إلى يومنا هذا.

  • حركة الترجمة: 

اهتمّ العباسيون بترجمة الكتب والمخطوطات القديمة إلى العربية، فشكل ذلك بداية الثورة الفكرية والحضارية في العصر العباسي. كان العرب يجهلون اللغة اليونانية التي دونت بها أغلب المؤلفات العلمية القديمة؛ أمثال أرسطو وأفلاطون وغيرهما. ومع اهتمام الخلفاء، خصوصًا أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد وابنه المأمون بالعلوم، عهدوا بعملية الترجمة إلى السريان، وبشكل أقل إلى الفرس. وقد كانت الترجمات تتم على مرحلتين، من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية. كذلك نقل العرب، الأدب السرياني بكامله إلى لغتهم، وقد اعترف المؤلّفون العرب القدماء، كابن أبي أصيبعة، والقفطي، وابن النديم والبيهقي، وابن جلجل وغيرهم، بقصّة غزو العرب للأدب السريانيّ، والمؤلّفات التي ترجمت عن السريانيّة إلى العربيّة في أرجاء الدولة العباسيّة والأندلس.

اقرأ عن دور بيت الحكمة في بداية العصر الذهبي للحضارة الإسلامية

أهم وأبرز الابتكارات والاختراعات التي قدمتها الحضارة العربية والإسلامية للعالم في عهد الدولة العباسية

  • الجراحة وأدواتها 

قرابة العام 1000 للميلاد نشر عَالم الطب العربي ‘‘الزهراوي‘‘ /1500/ صفحة يشرح فيها عن أسس وأساليب الجراحة وأدواتها، وقد ظل هذا الكتاب مرجعاً للأوروبيين، فقد كان الزهراوي أول من قام بالعملية القيصرية، والتي ساهمت فيما بعد بنجاح الملايين من حالات الولادة حول العالم.

بلغت الجراحة في القرون الوسطى ذروتها على يد أبي القاسم الزهراوي الذي ألف كتاب ’’التصريف لمن عجز عن التأليف’’، والذي اهتم فيه بالجراحة وأدواتها.

{ولد أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي في /936 – 1013/م بمدينة الزهراء القريبة من قرطبة وعرف طبيباً وجراحاً، لقد كان الزهراوي رائداً في كثير من العمليات الجراحية، وسباقاً إلى إنجازات علمية وطبية غير مسبوقة، فهو أول من كتب في تشوهات الفم وسقف الحلق، وأول من ربط الأوعية الدموية بخيوط من الحرير لإيقاف النزف، ويذكر له الكثير من الإنجازات}. 

  • الطيران 

قام الرجل الشهير عباس بن فرناس في القرن التاسع للميلاد بتصميم أول جهاز ذي أجنحة يمثل شكل طائر، وقد قام بتجربته عدة مرات محاولاً الطيران للتحول فكرته إلى إلهام استطاع فيه ليوناردودافينشي تطوير تصميمه.

{هو أبو القاسم عباس بن فرناس /810 – 887/م مخترع وفيلسوف وشاعر أندلسي من مدينة قرطبة. هذه الشخصية قدمت للبشرية ابتكارات عدة منها ساعة مائية اسماها الميقات، وهو أول من وضع تقنيات التعامل مع الكريستال، وقد صنع عدة أدوات لمراقبة النجوم}. 

  • الجبر ‘‘الرياضيات‘‘

يأتي أصل الكلمة في أغلب اللغات الأوروبية من كتاب ’’الجبر والمقابلة’’ المكتوب في القرن التاسع الميلادي، وهو كتاب مبني على الجذور الهندية واليونانية القديمة، حيث حمل تطوراً جديداً فنظام الجبر فيه نظام رقمي موحد للأرقام الصحيحة وغير الصحيحة. ويعود الفضل فيه لصاحبه الخوارزمي الذي جاء بفكرة تربيع الأرقام وتكعيبها، لقد كان الخوارزمي أول من فصل بين علم الحساب والجبر، فهو يعد من أبرز مشاهير العلم في العالم. ويعتبر إضافة الصفر إلى الأعداد أعظم هدية قدمها المسلمون للعالم؛ بواسطته سهل كتابة الأرقام لجميع المنازل.

{الخوارزمي هو محمد بن موسى الخوارزمي أصله من خوارزم وأقام في بغداد التي ذاع فيها صيته وانتشر. وبرز الخوارزمي في علوم الفلك والرياضيات، ولعبت إنجازاته دوراً كبيراً في تقدم الرياضيات والعلوم التي تعتمد عليها}.  

  • البصريات 

قام عالم البصريات ابن الهيثم بشرح كيفية عمل العيون لأول مرة في تاريخ البشرية، وذلك بإثبات أن العين هي أداة لاستقبال الضوء المعكوس من الأجسام وليست مصدراً للضوء كما كان يُعتقد لدى الإغريق. وهو أول من قال بأن العدسة المحدبة ترى الأشياء أكبر مما هي عليه وهو أول من شرح تركيب العين، ومثلت أبحاثه واكتشافاته أساس تطور التصوير واختراع الكاميرا.

{ابن الهيثم يعتبر من أعظم علماء العرب في البصريات إضافة إلى إسهاماته في الطب والفلسفة، وهو أبو علي الحسن ابن الهيثم ولد في البصرة في العراق عام 965م}.

  • الفلك والجغرافيا 

هذا العلم الذي بدأ قبل الإسلام، ولكن قام علماء العرب والمسلمين بتطوير الأدوات الخاصة به بهدف الملاحة وتحديد المواقع. ولعل أهم الأدوات الفلكية التي قدموها هي الإسطرلاب والحاسبات التناظرية والكرات الجغرافية المختلفة. كما أن العرب أول من قدم خارطة متكاملة للعالم القديم، ولعل أبرزها تلك التي قدمها الإدريسي..

لقد سعى الكثير من العلماء الفلك العرب إلى تصحيح الأخطاء السابقة في هذه المضمار، وقدموا وصفاً دقيقاً للمعالم والمدن، ومنه أبو حزم والبيروني وغيرهم كُثر، وقد يكون الإدريسي أبو عبد الله بن محمد الإدريسي أكثرهم شهرة حيث يعتبر من كبار الجغرافيين والفلكيين، والذي ولد في مدينة سبتة شمال المغرب عام 1100م.

  • الطاحونة الهوائية 

لقد قام المسلمين باختراع أول طاحونة للهواء عام 634م. حيث كانوا يعانون من نقص مصادر المياه في فصل الصيف، لتكون الرياح هي مصدر الطاقة الوحيد بهدف طحن القمح ودفع المياه.


لقد قدم العرب الكثير من الابتكارات الحضارية الهامة، كالموسيقى والتي وصل العديد من آلاتها إلى أوروبا كالعود وغيره من آلالات، إضافة إلى أول جامعة في عام 859 ميلادية والتي أنشأتها الأميرة فاطمة الفرحي في فاس بالمغرب.

  • الروبوت صناعة عربية 

صمم الجزري (توفي عام 1206 م)  آلات كثيرة ذات أهمية كبيرة كثير منها لم يكن معروفا فى أى مكان فى العالم من قبل، بما فى ذلك آلات رفع الماء، وساعات مائية ذات نظام تنبيه ذاتى، وصمامات تحويل، وأنظمة تحكم ذاتي، وكثير غيرها شرحها فى مؤلفه الذى أسماه “الجامع بين العلم والعمل النافع فى صناعة الحيل“.

ابتكر الجزري روبوت فى شكل غلام منصب يمسك فى يده إبريق ماء، وفى اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته طائر، وعند موعد الصلاة يصفرالطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده، ليصب الماء فى الإبريق بمقدار معين، وعقب الانتهاء من الوضوء يقدم له المنشفة، ثم يعود إلى مكانه.

  • تسجيل الصوت صناعة عربية أيضا 

يقول القرافي (توفي عام 1258م) في كتابه: ((نفائس الأصول في شرح المحصول)):

هل مجرد الصوت يدل على صاحبه؟ هل إذا صدر صوت فلا بد له من صاحب؟ أم أنه يمكن صناعة الصوت في غير الإنسان. بلغني أن الملك الكامل، صنع له شمعدان كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص – يقصد دمية شخص- يقف في خدمة الملك، فإذا انقضت عشر ساعات طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وقال: صبح الله السلطان بالخير والسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع. ثم يقول: وقد عملت أنا –المتكلم القرافي رحمه الله- هذا الشمعدان، وزدت فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد، إلى البياض الشديد، إلى الحمرة الشديدة، في كل ساعة لها لون، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص ويخرج شخص غيره – يقصد دمية -، ويغلق باب ويفتح باب، فإذا طلع الفجر، طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وإصبعه على أذنه يشير إلى الأذان، ولكني عجزت عن صنعة الكلام!! ثم صنعت صورة حيوان يمشي ويلتفت يمينا ويسارا، ويصفر ولا يتكلم. 


الفلسفة في عصر الدولة العباسية: 

علم الفلسفة لم يظهر ولم يعرفه المسلمون إلا بعد حركة الترجمة، وبالتحديد في العصر العباسي الأول؛ وقد مهَّدَ لذلك وجود كتب فلاسفة اليونان منتشرة في مناطق البحر الأبيض المتوسط بين الإسكندرية وأنطاكية وحَرَّان، فضلاً عن أن المأمون كان يُرَاسِل ملوك الروم -وهم البيزنطيون- ليحصل على الكتب والمخطوطات، لا سيما كتب الفلسفة؛ إذ كانت القسطنطينية -عاصمة الروم- تُعْرَفُ بمدينة الحكمة، فبعث إليه الروم بكتب الفلسفة وغيرها. كما استجاب للمأمون مهرة التراجمة، فقاموا بتعريبها، أو نقلها بنصوصها عن طريق الترجمات السريانية؛ إذ إن السريان قبل مجيء المسلمين كانوا قد ترجموا كتبًا كثيرة في الفلسفة اليونانية، وقد كان من أشهر مترجميهم: سرجيوس وسفرونيوس وسويرس.

موقف علماء المسلمين من الفلسفة 

ما إن تُرجمت الفلسفة اليونانية -مع غيرها من علوم اليونان- وأصبحت في حوزة المسلمين، حتى اختلف علماء المسلمين في موقفهم منها؛ فمنهم من وقف منها موقف الرفض والمعارضة، ونظر إليها على أنها باب إلى الضلال والفساد، وهذا هو موقف المتشددين من الفقهاء. ومنهم من وقف موقفًا وسطًا يقوم على النقد والتمحيص، فيأخذ منها ما يراه حقًّا، ويرفض ما يراه باطلاً، وهذا هو موقف المعتزلة وكثير من الأشاعرة من أمثال الغزالي الذي ميز بين ثلاثة أقسام فيها: “قسم يجب التكفير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلاً”[5]. ومنهم من وقف منها موقف الإعجاب والتقدير، فعكف على دراستها، وحاول محاكاتها، والتأليف على نمطها، وهذا هو موقف الكندي وأتباعه.

وإذا كان من علماء المسلمين، سواء في المشرق العربي أو المغرب والأندلس، مَنْ وَجَّهُوا جانبًا من عنايتهم للفلسفة اليونانية -كما في المثال الأخير- وعَبَّرُوا عن إعجابهم الشديد بها؛ فإنهم مع ذلك لم يكونوا -كما حاول بعض المستشرقين تصويرهم- مجرَّد حفظة للتراث اليوناني، أو قنطرة عَبَرَ عليها هذا التراث من اليونانية القديمة إلى أوربا في العصور الوسطى وما أعقبها من عصور. ومَنْ يَقِفُ على تراث الكندي، أو الفارابي، أو ابن سينا، أو ابن رشد -مثلاً- فإنه سوف يكتشف أن هؤلاء الفلاسفة -حتى في شروحهم وتلخيصاتهم للفلسفة اليونانية- كانت لهم ابتكاراتهم التي تكشف عن أصالتهم؛ وذلك أمر لا يحتمل الإنكار، إلا أن يكون ممَّن تأصَّلت فيهم نزعة التعصب المقيت، والبُغض لكل ما هو شرقي أو إسلامي. ولعلَّ من أبرز مظاهر الأصالة في فلاسفة هذا الميدان ما يتجلَّى في نتاج محاولاتهم التوفيق بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والوحي، وهي المحاولات التي سبقتها جهود أخرى للتوفيق بين أفلاطون (427 – 347 ق. م) ذي النزعة المثالية الصوفية -كما فهموه- وبين أرسطو (384 – 322 ق. م) صاحب الاتجاه العقلي.

إسهامات علماء المسلمين في تطوير الفلسفة 

وقد تجلت إسهامات علماء المسلمين الواضحة في علم الفلسفة وتطويرها في تفنيد ما في كتب ومؤلَّفات اليونان من معلومات، وتصحيح ما فيها من أخطاء، والربط بين ما جاء في أطرافها من معارف متناثرة وشذرات متباعدة، وإضافة شروح وافية لها، ثم إضافة الجديد من المعلومات التي تَوَصَّل إليها علماء المسلمين ولم يعرفها غيرهم من السابقين، فكان أن تَعَدَّدَتْ جوانب التفكير الفلسفي في الإسلام، وكان من أهمها: علم الكلام، والتصوف، والفلسفة الإسلامية الخالصة، وهذه نُبذة مختصرة من كل منها.

1-علم الكلام 

يعدُّ هذا العلم باكورة من بواكير العقلية الإسلامية، وهو كما يعرفه ابن خلدون: “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والردّ على المبتدعة المنحرفين”[8].

وهذا العلم يعتبر خالصًا للمسلمين؛ على الأقل في نشأته، فقد نشأ من أجل الدفاع عن العقائد الدينية وتفسيرها أو تأويلها تأويلاً عقليًّا عندما ظهر الضلال والزندقة، ومن خلال هذا العلم ظهرت المذاهب الفلسفية الكبرى، وظهر عمل المسلمين الباهر في تفسير الكون واكتشاف القوانين الطبيعية، وتوصلهم إلى مفهوم للوجود والحركة والعلة، يخالف مفهوم اليونان ويسبقون به مفكري أوربا المحدثين وفلاسفتهم[9].

ولعل اهتمام المتكلمين في منهجهم بالنظر والعقل هو ما حدا ببعض المستشرقين أن يعتبروا علم الكلام مناط ابتكار في التفكير الفلسفي الإسلامي، ودليلاً على أصالةٍ فكرية لدى المسلمين، وفي ذلك يقول المستشرق الفرنسي رينان: “أما الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام فينبغي أن تُلتمس في مذاهب المتكلمين”.

2- التصوف 

يعتبر التصوف ميدانًا من ميادين التفكير الفلسفي الإسلامي؛ لأنه وإن كان في جوهره تجربة روحية يعانيها الصوفي، فإن الفكر يمتزج بالواقع، والعلم يمتزج بالعمل في هذه التجربة، وهو بذلك ليس فلسفة خالصة تهتم بالبحث العقلي النظري في طبيعة الوجود بقصد الوصول إلى نظرية ميتافيزيقية متكاملة وخالية من التناقض، ولكنه فلسفة خاصة في الحياة تمتزج فيها العاطفة بالفكر، والعقل بالقلب، تهدف إلى إدراك الوجود الحق. ومن هنا كان في التصوف آراء ومذاهب ونظريات تعتبر ثمرة لتكامل الطاقات الإنسانية الثلاث: العقل والوجدان والسلوك.

وينبغي أن نشير هنا إلى أن التصوف من حيث هو استبطان منظم للتجربة الدينية -أيًّا كانت- ولنتائج هذه التجربة في نفس الرجل الذي يمارسها، فهو بهذا الوصف ظاهرة إنسانية ذات طابع روحي لا تحده حدود زمانية أو مكانية، وليس وقفًا على أمة من الأمم أو جنس من الأجناس البشرية.

3- الفلسفة الخالصة 

وهي فلسفة الذين أعجبوا بالفلسفة اليونانية وعكفوا على دراستها وشرحها وتحليلها وألفوا على نمطها، من أمثال: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل.. هذه الثُلَّة من الفلاسفة المسلمين الذين كانوا منارة استضاءت بها الدنيا والحضارة الغربية.

أشهر فلاسفة المسلمين

أ- الكندي 

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي الكوفي (185-256هـ/805-873م)، يعدُّه الكثيرون مؤسِّسَ الفلسفة العربية الإسلامية، وقد استحقَّ عن جدارة ومقدرة لقب: (فيلسوف العرب)؛ حيث خَلَفَ مؤلَّفاتٍ تربو على المائتين في مختَلَفِ العلوم، كان من أهمها في الفلسفة كتابه القيِّم: (الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد).

وقد وضع الكندي اللبنة الأولى في توضيح مشكلة حرية الإرادة توضيحًا فلسفيًّا، فلاحظ أن الفعل الحقيقي ما كان وليد قصدٍ وإرادة، وأن إرادة الإنسان قوَّة نفسية تُحَرِّكها الخواطر والسوانح، وهو من المؤمنين بالسببيَّة، كما أنه يؤكِّد فكرة العناية الإلهية التي يخضع الكون بمقتضاها لسُنَنٍ ثابتة.

وكان للكندي كذلك اهتمام بالرياضيات والفلك، وقد وضع كتبًا في الطب والأدوية، وله أيضًا آثار في الجغرافيا، والكيمياء، والميكانيكا، وكذلك الموسيقى، وقد عَدَّه بعض المستشرقين واحدًا من اثنتي عشرة شخصية تُمَثِّل قمَّة الفكر الإنساني[16].

ب- الفارابي 

وهو أبو نصر محمد بن طرحان الفارابي (259-339هـ/872-950م)، ويُعَدُّ من أكبر فلاسفة المسلمين، ويُعْرَف بالمعلِّم الثاني لدراسته كتب أرسطو -المعلم الأول- وشرحه لها، وعلى يده وَصَلَتِ الفلسفة الأرسطوطاليسية إلى أقصى ما وصلت إليه من ازدهار، وقد اشتهر بين الأوربيين باسم (Alpharabius)؛ فبفضل شروحه وأفكاره وأسلوبه تمكَّن من تقريب الفلسفة اليونانية إلى الفكر الإسلامي؛ ممَّا لم يُعْرَفْ قَبلاً على يد الكندي.

ومن أشهر كتب الفارابي وأهمها كتابه: (آراء أهل المدينةِ الفاضلة)، الذي شرح فيه نظام المجتمع الإنساني الأمثل، وحاول أن يُفَسِّرَ نواحي الإسلام المختلفة وجوانب الثقافة العربية الإسلامية المتعدِّدَة في ضوء فلسفته الخاصة، فبحث في علم الكلام والعقيدة والفقه والتشريع.. وقد نُقِلَتْ كتبه إلى اللاتينية في العصور الوسطى، وطُبِعَتْ في باريس سنة (1638م)، فكان لها أثرٌ فلسفي عظيم على أوربا.

ج- ابن سينا 

وهو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (370-428هـ/980-1037م)، اشتهر بالشيخ الرئيس، وعُرِفَ بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، ولم تَقِلّ شهرته كطبيب عن شهرته كفيلسوف، وقد عَدَّه سارتون من أعظم علماء الإسلام، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين.

ولابن سينا في الفلسفة مؤلَّفَات كثيرة تشهد ببراعته في صناعة الفلسفة وتطوُّرِها على يديه، وقد تُرْجِمَ بعضها إلى اللغات الأوربية، ومن أهمِّ مصنفاته الفلسفية: (الشفاء)؛ الذي استوعب فيه علوم الفلسفة، يليه (النجاة)؛ وهو مختصر (الشفاء)، و(الإشارات والتنبيه)، وتِسْع رسائل في الحكمة، وغير ذلك.

د- ابن رشد 

وهو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي (ت 595هـ- 1198م)، يُعَدُّ من أعظم فلاسفة المسلمين في الأندلس، ويُعْتَبَرُ من أعظم شُرَّاحِ فلسفة أرسطو، حتى إنه عُرِفَ باسم (الشارح)، فهو الذي مَيَّز بين تعاليم أرسطو وأفلاطون، كما تَمَيَّزَ بالتمحيص الكبير، حتى إنه لم يرتضِ كثيرًا من آراء أرسطو التي لا تَتَّفِقُ مع الدين.

وقد اقتبس الغرب فلسفة ابن رشد بكاملها، ففتحت أمام الفكر الفلسفي الأوربي الوسيط بابَ البحث والمناقشة، فنشأ بينهم مذهب (الرشدية) للأخذ بالعقل عند البحث. ومن تآليفه المهمَّة: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، و(مناهج الأدلة في عقائد الملة).

وإجمالاً فإن الفلسفة الإسلامية تعتبر اطّرادًا واستمرارًا للفكر الإنساني، بل وتقدمًا له في بعض النواحي؛ حيث أخذت ما أخذت عن الفلسفات القديمة، ثم ساهمت في تنقيحها وإضافة الجديد إليها، ومهدت لما بعدها من فلسفات أخرى، فدفعت الفلسفة المسيحية دفعة قوية، وبعثت النهضة الأوربية وغذَّت رجالها في العصر الحديث.

ويمكن تبين أثر الفلسفة الإسلامية من الناحية الموضوعية في أنها أثارت في أوربا موضوعات ومشكلات كثيرة نالت اهتمامًا في الجامعات والمعاهد، ودارت حولها بحوث ودراسات، وعالجتها كتب ومؤلفات، وشغلت البيئات الثقافية على اختلافها، من ذلك موضوع النفس وحقيقتها، ونظرية المعرفة، ومشكلة قِدم العالم، ونظرية الفيض أو الصدور، وصفات الباري، ومشكلة العناية الإلهية، والخير والشر، ومشكلة الوجود والماهية أو الممكن والواجب، إلى آخر هذه المسائل.


هل كان الغرب أمينًا في نسبة المخترعات التي اعتمد عليها ووصلته من العرب؟

عندما تعرف الغرب على حضارة العرب عن طريق الآندلس وصقلية ثم الحروب الصليبية، تم نقل معظم علوم العرب وترجمتها دون أن تنسب إلى أصحابها العرب والمسلمين، فاطلع عليها علماء الغرب إبان نهضتهم، فمنهم من حسبها أنها من انجازات قدماء الأغريق، ومنهم من عرف أنها من انجازات العرب والمسلمين فعزوها إلى أصحابها ولكن الغالب هو التعامل بعنصرية وعدم الاعتراف بقضل العرب، وحديثا بدأت تتوالى الاعترافات بهذا الفضل.

  • النظافة واتيكيت الطعام واللباس: 
    *تغلغل الأتـَكيت الإسلامي Islamic Etiquette في العالم: الأتيكيت Etiquette كلمة فرنسية تعني آداب السلوك ومنها آداب الطعام. وقد تعلمها الفرنسيون والأوربيون من الأندلس: مركز الإشعاع الحضاري لأوروبا والغرب. فالادعاء بخشونة الخُلق وهمجية الشرقيين مقارنةً بدماثة الخُلق الحضاري الغربي إدعاء باطل يحتاج لتحليل وتفصيل:
    *كانت الحمَّامات العامة والحمّامات الخاصة شائعة في العالم الإسلامي، حيث الإغتسال ضروريًا خصوصًا ليلة الجمعة من كل أسبوع. وبينما كان في بغداد مئات الحمامات العامة، كان قصر فيرساي في باريس بعكسه، لا يوجد فيه حمام واحد!
    *ويعتبر زرياب (توفي عام 857م) مثالًا للأناقة، فصار قدوة في الزي، وكان مثالًا في التجديد لطرق المعيشة فهو الذي علمهم كيف يفرقون شعورهم في وسط الرأس ويعقصونها من الخلف، حتى يظهر العنف ويبدو الجبين بعد أن كانوا يرسلون الشعر فوق الجبهة والأصداغ، وهو الذي استن لهم لبس الثياب البيضاء والملونة الخفيفة في الصيف، والفراء والأردية الثقيلة في الشتاء، وهو الذي نقل إليهم كثيرًا من طرق الطهي وتصفيف الموائد ومظاهر التحضر، وأدخل زرياب إلى أوروبا وجبات الطعام الثلاثية الأطباق: تبدأ بالحساء (الشوربة)، ثم يتبعها الطبق الرئيسي، أما من اللحم، أو السمك، أو الطيور، ثم تختتم بالفواكه والمكسرات، وأسس أول معهد للموسيقى في العالم في مدينة قرطبة. وكان له ذوقه الخاص في تنسيق الموائد وتنظيمها واتخاذ الأكواب من الزجاج الرقيق بدلا من المعادن، واصطناع الأصص للأزهار من الذهب والفضة، وكان يضع على مائدته الكثير من المناديل، هذه لليدين وهذا للشفتين وهذا للجبهة وهذا للعنق، وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضا.
  • الموسيقى: تعلم العرب العزف على الآلات الموسيقية والعزف على العود خصوصاً من الفرس والروم، واستطاعوا أن يطوروه بما يتناسب مع أذواقهم وأوزان أشعارهم. تكون وتبلور هذا الفن في مدة لا تزيد عن 40 عاماً من القرن الأول الهجري، ولما انتقلت ألحان العصر الأموي إلى العصر العباسي تم جمعها في كتب ومدونات. ويعود الفضل في ذلك إلى ريادة إسحق الموصلي (توفي عام 850م) الذي وصفه أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، بأنه إمام أهل صناعة الموسيقى جميعاً ورئيسهم ومعلمهم وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه. وكان الموصلي يرى أن من حق صناعته عليه أن يحفظ أصولها التي وضعها رواد الغناء والموسيقى في العصر الأموي بالرواية الأمينة المتقنة. وبفضل الموصلي اتسعت وتأصلت عملية تدوين الغناء، ويرجع إليه كتابة أول نوتة موسيقية عربية. ويرجع إلى زرياب تطوير العود بإضافة وترين رفيعي الصوت من الحرير وثالث من أمعاء شبل أسد غليظ الصوت. ومن الثابت أن أول من أدخل تحسيناً على العود الفارسي كان الملحن العربي زلزل، أشهر ضارب عود في بغداد في ذلك الوقت.

أهم إسهامات العرب في مجال الموسيقى: 

يعتبر الكندي (توفي عام 873م ) أول من دون الموسيقى بالأحرف الأبجدية، ويشهد على ذلك السلم الموسيقي الذي دونه في مخطوطته الموسيقية، وذلك نسبة لأوتار العود. وكذلك وجدت مخطوطة للكندي سجل فيها لحن مدون يضعه كتمرين ودرس أول للتلميذ الذي يتعلم الضرب على العود. هذا اللحن يعتبر أقدم وثيقة موسيقية للحن مدوّن ليس عند العرب فقط بل في تاريخ العود. هذا الاختراع هو ما جعل باحثين يقولون إن الجداول الموسيقية الحديثة مستمدة من الأبجدية العربية. وقد أدخل زرياب على فن الغناء والموسيقى في الأندلس تحسينات كثيرة، أهمها أنه جعل أوتار العود خمسة مع العلم أنها كانت أربعة أوتار، وأدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله، وافتتح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر.

محمد وأحمد (أبو جعفر) والحسن بن محمد بن موسى بن شاكر، هم رياضيون وفلكيون ومشتغلون بالميكانيكا، من خراسان، عاشوا في القرن التاسع الميلادي. اخترع هؤلاء الإخوة أول آلة موسيقية ميكانيكية معروفة، وهي آلة تعمل بالطاقة المائية وتُشغل أسطوانات قابلة للتبديل تلقائياً. هذه الأسطوانة ذات الدبابيس على سطحها ظلّت الجهاز الأساسي لإنتاج وإعادة إنتاج الموسيقى ميكانيكياً حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

اخترع بنو موسى أيضاً مشغل ناي يبدو أنه كان أول آلة قابلة للبرمجة. صوت الناي كان يصدر من خلال البخار الساخن ويمكن للمستخدم ضبط الجهاز على أنماط مختلفة للحصول على أصوات مختلفة منه.

يذكر أنه من بين العديد من الأدوات التي وصلت إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط، كان العود والرهاب (سلف آلة الكمان).


استقرار المدارس الفكرية والمذاهب الفقهية والفرق العقائدية: 

لئن شهد عصر النبوة والخلفاء الراشدين والدولة الأموية ظهور الفرق العقائدية والمدارس الفكرية والفقهية المختلفة فقد شهد عصر الدولة العباسية استقرار هذه المدارس والفرق بل ونجاحها في السيطرة على الخلافة أو تكوين دول خاصة بها، وهذا أكبر دليل على الانفتاح والتسامح الفكري الذي تميز به أهل السنة والجماعة.

قامت للخوارج دولة في البصرة لم تعمر سوى 13 سنة ثم في عمان، وهي التي تمكنت من الاستمرار إلى يومنا هذا رغم تحولها إلى سلطنة وليس إمامة يختار حاكمها بالشورى، والدولة الرستمية الأباضية في بلاد المغرب، كما نجح الشيعة في تكوين دول مستقلة كالدولة الحمدانية في الشام، والدولة الفاطمية وهم شيعة إسماعيلية وتسموا بالخلافة وبسطوا سيطرتهم على معظم بلاد المغرب ومصر والحجاز ولفترة محدودة دعى لهم على منابر بغداد عام 450 هـ، وأسس الزيدية ــ وهم فرقة شيعية معتدلة ــ أيضا دولا خاصة بهم في اليمن ودولة الأدارسة في المغرب، كما نجح المعتزلة في السيطرة على شؤون الدولة في عهد المأمون والواثق والمعتصم، وفتنوا الناس بمسألة خلق القرآن وأرغموا العلماء والناس على هذا القول رغم أنهم أهل العقل والتفكير في المدارس الفكرية العقائدية.

دور الشعوب المسلمة غير العربية  في عهد الدولة العباسية:

لئن غلب الطابع العربي على دولة الخلافة الراشدة والدولة الأموية ، فان عهد العباسيين شهد تنافس جميع الشعوب التي دخلت الاسلام في البناء الحضاري الروحي والمادي للخلافة العباسية، فلم يضع الإسلام الشعوب غير العربية التي أسلمت في بيات حضاري ولكنه أخذ بها ووضعها على المضمار الحضاري لتركض فيه بلا جامح بها أو كابح لها.

المسلمون حملة الحضارة البشرية:

كانت مشاعل الحضارة الفتية للمسلمين تبدد ظلمات الجهل وتنير للبشرية طريقها من خلال التمدن الإسلامي. فبينما كانت الحضارة الإسلامية تموج بديار الإسلام من الأندلس غربا لتخوم الصين شرقا كانت أوروبا وبقية أنحاء المعمورة تعيش في جهل وظلام حضاري، ويعتبر المسلمون أكثر الشعوب أمانة علمية فقد اطلعوا على علوم الحضارات السابقة، فاستوعبوها ونقدوها وصححوا أخطائها وطوروا عليها ونقلوها بأمانة علمية، وللأسف تعاملت النهضة الأوروبية الحديثة بعنصرية واضحة؛ حيث أخفت دور المسلمين بل وسرقت جهودهم دون نسبتها لهم في كثير من الأحيان، وحديثا فقط بدأت تظهر أصوات عاقلة ومنصفة في بلاد العرب تعيد كتابة تاريخ الحضارة البشرية وتعترف بدور المسلمين في النقل الأمين لعلوم الحضارات التي سبقتها.


الفتوحات الجديدة

انشغلت الدولة العباسية بمواجهة الفتن والحروب الداخلية ثم الغزو الصليبي والمغولي، فلا يكاد يوجد فتوحات وإضافات حقيقية تذكر الى الدولة الاسلامية. يمكن القول أن الدولة العباسية حافظت على سواء بنفسها أو عبر الدول المستقلة على الأراضي التي ورثتها من الدولة الأموية، ولم تسجل خسارة لأرض إسلامية إلا ما كان في الأندلس؛ علما أن نفوذ العباسين كان منعدما تقريبا. كما يمثل عهد العباسيين المحافظة على الفهم الصحيح للاسلام والمتمثل في أهل السنة والجماعة، ولا عجب أن يمثل أهل السنة والجماعة الى اليوم حوالي 90% من مجموع المسلمين على الأقل.

عهد العباسين يمثل فتحا للقلوب والعقول حيث استقر الدين في الشعوب المسلمة غير العربية، التي نافست العرب في حفظ الدين وحمل رايته والدفاع عنه سواء بالعلم أو السيف، ولا عجب أن يمثل العلماء المسلمون غير العرب نسبة كبيرة من العلماء حتى في علوم اللغة العربية فيكفي أن يكون سيبويه امام النحو فارسيا والبخاري امام الحديث فارسيا أيضا.

فتح الأغالبة جزيرة صقلية عام 827م واستمرت إمارة اسلامية حتى عام 1072م.

تميزت الفتوحات في عهد العباسيين بانتشار الاسلام عن طريق التجار والدعاة والطرق الصوفية وخاصة في افريقيا وأندونيسيا. كما يرجع الفضل الكبير في دخول الإسلام وانتشاره إلى مناطق واسعة من غرب أفريقيا أو السودان الغربي مثل مالي وغانا والسنغال وغيرها إلى مجهودات دولة المرابطين ورجالاتها الأوائل، وعلى رأسهم الأمير “أبو بكر بن عمر اللمتوني”، الذي عمل على التوسُّع في هذه المناطق ونَشْر الإسلام وتوطين الدعاة بين قبائلها في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، فقد ظل هذا الأمير المرابطي يفتح بلاد غانه على مدار 14 عاما متواصلة، حتى أتمَّ فتحها سنة 469هـ/1076م تقريبا.

الحروب الداخلية: 

  • صراعات العباسيين بينهم كصراع المنصور مع عمه عبدالله بن علي الذي أعلن نفسه خليفة ابو العباس السفاح فهزمه ابو مسلم الخراساني ومات مسجونا عام 147هـ وصراع الأمين والمأمون واستمر من 809م الى 827 م حتى انتصر المأمون ووحد الخلافة العباسية تحت رايته.
  • صراع البيت الهاشمي بين العلويين والعباسيين حيث تمكن العباسيون من اقصاء العلويين عن شؤون الحكم والسلطة رغم أنهم تشاركوا في اسقاط الدولة الأموية، ويذكر هنا ثورة ذو النفس الزكية 145هـ ، وثورة ابن طباطبا عام 199هـ.
  • استمرار الصراعات والثورات التي نظمتها الفرق الاسلامية غير السنية كالخوارج والمعتزلة والشيعة.
    تحكم العسكر في الخلفاء، حيث سيطر العسكر التركي ثم الفارسي البويهي ثم السلاجقة بقيادة نظام الملك ثم المملوكي عند انتقال الخلافة الى القاهرة اثر سقوطها في بغداد على يد هولاكو عام 656 هـ / 1258 م.
  • بسبب كل ذلك استقلت كثير من الدول عن الخلافة اما استقلالا تاما كالفاطميين في القاهرة مثلا أو الاحتفاظ بالتبعية الاسمية لدولة الأغالبة في المغرب، وأصبح الخليفة العباسي وخاصة في عصر التحكم التركي في الخلافة مجرد خلية يملك ولا يحكم.

التهديد الخارجي: 

  • المناوشات مع البيزنطيين كما حدث في معركة عموربه عام 223هـ/838م
  • الغزو الصليبي الذي امتد قرنين من الزمان 490 – 670هـ \ 1096 – 1272م وتمكن من اقتطاع المدن الساخلية للبحر المتوسط.
  • الغزو المغولي الذي تمكن من اسقاط معظم العواصم الاسلامية الشرقية ثم اسقط بغداد عام 656هـ وتمكن السلطان قطز المملوكي من وقف تقدم المغول يعد معركة عين جالوت عام 658هـ/ 1260م.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *