موقعة الحرة

موقعة الحرة

بدأنا حلقات هذه السلسة (معركة الخلافة) للحديث حول المعارك والفتن التي وقعت بين المسلمين بسبب تحول الخلافة إلى مُلك وراثي، واليوم موعدنا مع الحلقة السابعة حول موقعة الحرة (28 ذي الحجة سنة 63هـ).

ملاحظة: ندرس في هذا البحث مسألة الخلافة الإسلامية، مع اعترافنا أن الواقع الحالي بين المسلمين يوضح أن الحكم الملكي الوراثي أرحم وأفضل قياسًا بالأنظمة الديكتاتورية الأخرى.

موقعة الحرة 

وهذه معركة جديدة وهي أثر من آثار تحول الخلافة إلى ملك وراثي مما أعطى للكثيرين المبرر الكافي للخروج على يزيد.

وفد المدينة إلى يزيد:

لما ولي الوليد الحجاز أقام يريد ابن الزبير فلا يجده إلا محترزاً ممتنعاً فعمل ابن الزبير بالمكر في أمر الوليد. فكتب أبا يزيد(1): إنك بعثت إلينا رجلاً أخرق لا يتجه رشد ولا يرعوى لعظة الحكيم فلو بعثت رجلاً سهل الخلق رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها ، وأن يجتمع ما تفرق.

فعزل يزيد الوليد وولي عثمان بن محمد بن أبي سفيان وهو فتى غرَّ حدث لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا علة ، فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي والمنذر بن الزبير ورجالاً كثيراً من أشرف أهل المدينة ، فأكرمهم وأعظم جوائزهم وأعطى عبد الله بن حنظلة وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً 100 ألف درهم وكان معه ثمانية بنين أعطى كل ولد عشرة آلاف.

فلما رجعوا خلعوا يزيد وعامله وبايعوا ابن حنظلة، وفي رواية تقول أنهم اتهموه بشرب الخمر وقال ابن حنظلة:

“جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم ، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلا لأتقول به”، فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة وولده عليهم.

وكذلك فعل المنذر بن الزبير حيث نزل على ابن زياد بعد رجوعه من عند يزيد ، فأكرمه ابن زياد ، ولما وصل للمدينة أظهر شتمه وعمل على تحريض أهل المدينة لخلع يزيد.

ويتساءل المرء ماذا كانت خطة أهل المدينة وما هي تطلعاتهم هل كانوا يفكرون ببيعة أحدهم على الخلافة أم كانوا يفكرون ببيعة ابن الزبير ، الروايات لا تشير إلى ذلك، وتحصر الأمر بأنهم اعترضوا على فسق يزيد. والغريب بايعوا يزيد ، وأقاموا عنده ومع إكرامه لهم أظهروا ذلك ، فهل كان في تخطيط عبد الله بن حنظلة هذا العمل للتقوى على حرب يزيد ، الرواية السابقة تؤكد ذلك.

أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد وحصروا بني أمية بعد بيعتهم عبد الله بن حنظلة، فاجتمع بنو أمية ومواليهم… وقد يرى رأيهم وكانوا ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم فكتبوا إلى يزيد يستغيثونه فقدم الرسول له فتمثل بقول الشاعر(2) :

لقد بدلوا الحلم الذي في سجيتي               فبدلت قومي غلظة بليان

فبعث إلى عمرو بن سعيد بأمره بالمسير إلى المدينة فقال: قد كنت ضبطت لك الأمور والبلاد فأما الآن إذا صارت دماء قريش تهرق بالصعيد فلا أحب أن أتولى ذلك. وبعث إلى عبيد الله بن زياد بأمره بالمسير إلى المدينة المنورة ومحاصرة ابن الزبير بمكة فقال: والله لا جمعتهما للفاسق، قتل ابن رسول الله وغزو الكعبة، وأرسل إليه يعتذر فأنفذ عندها مسلم بن عقبة المري وهو شيخ كبير مريض وقال له: إن حدث بك حادث فاستخلف الحصين بن نمير السكوني وقال له: ادع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فانهبها ثلاثاً فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند فإذا  مضت الثلاث فاكفف عن الناس. وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوصى به خيراً فإنه لم يدخل مع الناس وإنه قد أتاني كتابه.

غرائب(3):

لما سمع عبد الملك بن مروان أن يزيد سير الجنود إلى المدينة قال ليت السماء وقعت على الأرض إعظاماً لذلك، ثم إنه ابتلى بعد ذلك بأن وجه الحجاج فحضر مكة، ورمى الكعبة بالمنجنيق وقتل ابن الزبير.

الاستعداد للمعركة (موقعة الحرة):

لما علم أهل المدينة بمسير مسلم بن عقبة إليهم ضيقوا على بني أمية وعاهدوهم  بأن يخرجوهم على ألا يقولوا لمسلم عن عوراتهم فقبلوا ذلك ، فخرجوا حتى لقوا مسلم بوادي القرى ، فدعا بعمرو بن عثمان وطلب منه المشورة فرفض للعهد الذي قطعه على نفسه ، فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك: ادخل قبلي لعله يجترئ بك عني، فدخل فقال: هات ما عندك قال نعم أرى أن تسير بمن معك فإذا انتهيت إلى ذي نخلة نزلت فاستظل الناس في ظله فأكلوا من صقره، فإذا أصبحت من الغد مضيت وتركنا المدينة ذات اليسار ثم درت بها أن تأتيهم من قبل الحرة مشرقاً ثم نستقبل القوم فإذا استقبلته وقد أشرفت عليهم الشمس طلعت بين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم ويصبهم أذاها ويرون من ائتلاق بيضتكم وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم ما داموا مغربين، ثم قاتلهم واستعن الله عليهم، ففعل مسلم كما أشار عليه.

وكان أهل المدينة قد اخذوا خندقاً وعليه جمع منهم وكان عليه عبد الرحمن بن زهير بن عوف ، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر وهم قريش في جانب المدينة ، وكان معقل بن سنان الأشجعي وهو من الصحابة على ربع آخر ، وهم المهاجرون وكان أخبر جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل  في أعظم تلك الأربع وهم الأنصار (4).

 اشتعال المعركة (5):

جاء مسلم أهل المدينة من قبل المشرق ثم دعاهم فقال: إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل، وإني أكره إراقة دمائكم، وإني أوجلكم ثلاثاً فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه وانصرفت عنكم وسرت إلى هذا المحل الذي بمكة وإن أبيتم قد أعذرنا إليكم.

فلما مضت الثلاث قال: يا أهل المدينة ما تصنعون أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا بل نحارب فقال لهم: لا تفعلوا بل ادخلوا في الطاعة ونجعل حدنا وشوكتنا على أهل هذا الملحد الذي قد جمع المراق والفساق من كل أوب يعني ابن الزبير، فقالوا له: يا أعداء الله لو أردتم أن تجوزوا إليه ما تركناكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام فتخيفوا أهله وتلحدوا فيه وتستحلوا حرمته لا والله لا نفعل.

هذه الرواية تدل على تخطيط أهل المدينة وتصميمهم على بيعة ابن الزبير لو تمكن لهم أمرهم في المدينة، والله أعلم.

ودارت رحى المعركة وهزم في المدينة، ثم أباح مسلم المدينة 3 أيام يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال، فأفزع ذلك من بها من الصحابة فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف الرجل فتبعه رجل من أهل الشام فاقتحم عليه الغار فانتضى أبو سعيد سيفه يخوف به الشامي، فلم ينصرف عنه فعاد أبو سعيد وأغمد سيفه وقال: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) فقال: من أنت؟ قال: أنا أبو سعيد الخدري، قال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فتركه ومضى.

وقتل فيها عبد الله بن حنظلة والفضل بن عباس بين ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن عاصم الأنصاري ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري وزبير بن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ووهب بن عبد الله بن زرعة بن الأسود ومعقل بن سنان الأشجعي ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة.

آراء ومواقف في ثورة أهل المدينة

1-موقف عبد الله بن عمر (6):

أخرج البخاري أنه لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال إني سمعت النبي صلى الله عليه عليه وسلم يقول: “ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، وإن قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه”.

2-موقف محمد بن الحنفية (7):

روى ابن كثير أن عبد لله بن مطيع مش إلى المدينة إلى محمد بن علي بن أبي طالب (المعروف بابن الحنفية) فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب، فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظب على الصلاة متحريا للخير يسأل عن الفقه ملازما للسنة.

3-موقف النعمان بن بشير الأنصاري (8):

أتى قومه وأمرهم بلزوم الطاعة وخوفهم الفتنة وقال لهم: إنكم لا طاقة لكم بأهل الشام.

4-علي بن الحسين (9):

لم يشترك أيضا بالثورة وخرج منها.

آراء بعض المفكرين المحدثين

قال الشيخ محمد الخضري بك (10): إن الإنسان ليعجب من هذا التهور الغريب والمظهر الذي ظهر به أهل المدينة في مقامهم وحدهم بخلع الخليفة ، إنهم فتقوا فتقاً وارتكبوا جرماً فعليهم جزءاً عظيماً من تبعة انتهاك حرمة المدينة ، ويعترض على الإسراف في القتل وهو نفس رأي د. أحمد شلبي (11) حيث يحمل الجانبان تبعة الأحداث الدامية ، ويذكرها الحسن البصري (12) فيقول: والله ما كاد ينجو منهم أحد، قتل منها خلق من الصحابة رضي الله عنهم ومن غيرهم ونهبت المدينة، قال صلى الله عليه وسلم: “…. من أخاف أهل المدينة أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين” رواه مسلم .

وعلى ذلك نستطيع أن نقرر تسرع أهل المدينة  في تصرفهم ولو اتصلوا بعبد الله بن الزبير وخططوا للأمر لكان خيراً للمسلمين. وهذه المعركة تؤكد قول الرسول هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش وتوضح جرم تحويل الخلافة إلى مُلك وراثي.

***

للتعرف على المصادر والمراجع الخاصة بحلقات معركة الخلافة، الرجاء الضغط هنا.

إعداد: أحمد العبد الجليل

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *