أحتاج المسلمون إلى الفلسفة اليونانية قبل بناء مشروعهم الحضاري والثقافي؟

الفلسفة الإسلامية

لم يثر علمًا اشكاليات واعتراضات كما أثاره علم الفلسفة والمنطق، وتنوعت الآراء بين من يعتبره أصل العلوم وبدايتها، ومن يعتبره مجرد آلة ضرورية لباقي العلوم، وهناك من لا يعتبره علما فلا تجد اتفاقا على تعريفه ويرى البعض أنه يثير شكوكا أكثر مما يؤدي إلى اليقين العلمي، وبعض العلماء يعتبره أداة تفكير متوفرة في كل البشر ويختلفون حسب قوة ذكائهم واطلاعهم وخبراتهم فقط، فلا يخلو إنسان من التفلسف واستخدام المنطق للوصول إلى اثبات شيء أو معرفة شيء ما، حتى قال ابن تيمية : “إن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد”. انظر: (مجموع الفتاوى جزء 9 صفحة 82) 


روابط سريعة:

تعريف الفلسفة

الفلسفة الإسلامية

موقف العلماء المسلمين

دور العلماء المسلمين في الفلسفة وعلم المنطق

أثر الفلسفة والمنطق اليوناني على العلوم الإسلامية


تعريف الفلسفة 

تعود جذور كلمة فلسفة إلى الكلمة اليونانية القديمة فيلوسوفيا، والتي تعني محبّة الحكمة أو بمعنى آخر طلب المعرفة، وقد وصفها البعض بأَّنها تعني التفكير في التفكير، أي تعني تفكير الإنسان في طبيعة التفكير والتدبر والتأمل، ويعدُّ الفيلسوف أو الحكيم اليوناني فيثاغورث الذي ولد عام 572 قبل الميلاد أول من عرَّف نفسه بصفته فيلسوفًا، كما يشيرُ البعض إلى أنَّ الفلسفة مفهوم قديم يدلُّ على نشاط الإنسان قديمًا فيما يتعلَّق بعملية أو نظرية ما وجدَت في مختلف المجتمعات بأشكال متعددة، فالفلاسفة هم الذين يبحثون عن الحقيقة من خلال التأمل. (انظر المعجم الفلسفي د. جميل صليبا ص 160) 

موضوعات علم الفلسفة: 

-البحث في جوهر الكون وأصله. 

-البحث عن خالق الكون وطرح التساؤلات حوله وحول وجوده، وصلته بالمخلوقات.  

-البحث في تساؤلات عن سبب وجود العالم كله.  

-البحث في صفات هذا الصانع أو الخالق، وحول أسباب خلقه للبشر.  

-البحث في أساس التفكير السليم، وحول ماهية العقل وعمله.  

-البحث في حدود ووجود وماهية إرادة الإنسان الحرة، وأهداف الحياة ذاتها.  

-البحث في كيفية وصول البشر إلى العيش السليم المشترك. 

(انظر المعجم الفلسفي د. جميل صليبا ص 162) 


ما هي الفلسفة الإسلامية؟

يدلُّ مفهوم الفلسفة الإسلامية بمفهومه الخاصّ على جميع النصوص والمؤلفات الفلسفية التي نتجت عن النصوص الإسلامية ذاتها، فقد أعطت كثير من النصوص المقدسة في الإسلام تصورات عديدة عن جميع المسائل الكبرى التي كانت تشغل الفلسفة وعلماء الفلسفة في ذلك العصر، وخصوصًا حول الاسئلة الوجودية الكبرى مثل تلك التي تتعلق بالخالق والكون والحياة عمومًا، أمَّا بالمفهوم الأوسع والأعمِّ والذي يجب أن يشار إليه في تعريف الفلسفة الإسلامية فإن هذا المفهوم يدلُّ على جميع ما تمَّ إنتاجه من أعمال ومؤلفات في الفلسفة من قبل العلماء والمفكرون المسلمون ضمن الإطار العام للثقافة العربية والإسلامية وتحت قبَّة عظيمة وشاملة هي الحضارة الإسلامية، التي كانت قد توسَّعت بشكل كبير لتشمل كثير من الثقافات والحضارات القديمة التي سبقتها، وليس بالضرورة أبدًا أن ترتبط تلك الأعمال بالإسلام أو بالدين، ويمكن القول بأنَّ أقرب تعبير استُخدم في النصوص الإسلامية للإشارة إلى الفلسفة هي كلمة الحكمة، ولهذا استخدم الفلاسفة المسلمون هذه الكلمة للإشارة إلى الفلسفة ذاتها. ( انظر بتصرف: تكوين العقل العربي لمحمد عابد الجابري) 


هل احتاج المسلمون إلى الفلسفة اليونانية قبل بناء مشروعهم الحضاري والثقافي والفلسفي؟

كان وجود النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم وما تركه النبي من آلاف الأحاديث والمرويات المنطلق الأساسي التي قامت عليه الحضارة الإسلامية، وان كانت الفلسفة اليونانية تركز على النظر العام لكل شيء وهو ما يطلق عليه الحس الفلسفي، فمن غير معرفة هذه الفلسفة تمكن المسلمون من وضع منهج لجمع القرآن الكريم والأحاديث النبوية وطوروا علم الأسانيد بمنطق علمي حاكى كيفية نقل البشر للمرويات، ثم لما دخل غير العرب في دين الله أفواجا وفشى اللحن في الخطاب طوروا علم النحو وقواعده لضبط اللغة، ثم لما اتسعت المسائل الجديدة في الشريعة قاموا بضبط قواعد الفقه وأصوله للوصول إلى الأحكام الشرعية وفق ضوابط من التفكير السليم وفهم اللغة العربية، كما انطلق الاهتمام بالأبحاث العلمية البحتة كعلم الطب والكيمياء والفلك، وطور المسلمون المنهج التجريبي على يد العالم جابر بن حيان وأبحاثه في علم الكيمياء. (انظر: الأعلام لخير الدين الزركلي ج2/ص90 – 91)، وهذا المنهج العلمي التجريبي فهمه روجر بيكون وتلقاه من معلميه العرب المسلمون في الأندلس كما اعترف المنصفون من علماء الغرب. (انظر موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة للدكتور عبدالحليم محمود ص 130)   


موقف العلماء المسلمين من الفلسفة والمنطق اليوناني

اكتسبت عملية نقل التراث الفلسفي اليوناني إلى المجال المعرفي الإسلامي وتيرة سريعة في المرحلة العباسية؛ ذلك أن العملية قد تحولت من إطار العمل الفردي الضيق إلى إطار العمل المتخصص المتبنى من قبل الدولة نفسها. وكانت حركة النقل هذه مفتاح التمازج الثقافي الحضاري العميق بين الفكرين اليوناني والعربي الإسلامي. فقد عرف العرب والمسلمون أعمال أفلاطون وأرسطو من خلال الترجمة، وكذلك من خلال كتب فيلسوف الإسكندرية أفلوطين صاحب “التاسوعات” التي نقلت إلى العربية. وهذا لا ينفي تواصل العرب مع المراكز الفلسفية قبل عصر الترجمة المعلوم في العصر العباسي. انظر: (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام لعلي سامي النشار ط 5  دار المعارف مصر1/ 108- 115
وعليه، فقد تكوَّن وضع فكري، جراء هذا النقل، في المجال المعرفي الإسلامي ظاهره التمازج بين فكرين وباطنه ومستقبله اصطدام بين مرجعيتين مختلفتين، فنحن، إذن، أمام معارف آتية من الخارج اصطدمت بمنهج موجود بالداخل؛ أي في البيئة المعرفية الإسلامية؛ فتفاوت التفاعل والتداخل مع هذا العالم الخارجي، وعليه انقسم العلماء المسلمون إلى ستة أقسام: 

  • القسم الأول: رفض هذه الفلسفة واعتبرها دخيل غير طبيعي على الثقافة الإسلامية لاختلاف المنطلقات الأساسية كعلماء الحديث والفقه وأبرزهم الإمام احمد بن حنبل الذي واجه فتنة القول بخلق القرآن والتي كانت من تجليات تأثر المعتزلة بالفلسفة اليونانية، وكان ينهى عن الاشتغال بهذه العلوم. 
  • القسم الثاني: تماهى مع الفلسفة اليونانية وامتزج بها حتى أضحى ينظر إلى الفقهاء وعلماء الحديث نظرة دونية، وأطلقوا على أرسطو المعلم الأول، وعد بعضهم أن مرتبة النبوة يمكن أن تأتي بالتريض والكسب كابن سينا والفارابي. وانتصر لهؤلاء علماء الجهمية والمعتزلة الذين وجدوا في الفلسفة والمنطق اليوناني طريقا لتغليب العقل ورد النصوص وجرأهم على القول بخلق القرآن وتعطيل الأسماء والصفات لله تعالىـ بيد أنهم لم يسلموا بكل منطلقاتها ومقرراتها فانتقدوا وصححوا وأضافوا. 
  • القسم الثالث: اعتبروا الفلسفة والمنطق بمثابة علوم الآلة التي ينبغي الاستفادة منها، لتصويب التفكير العقلي والنظر في الأصول العامة للعلوم كما تم الاستفادة من علوم الرياضيات والفلك التي اطلع عليها المسلمون ووصلتهم من الحضارات الأخرى غير المسلمة، كابن رشد الحفيد والرازي، وعموم المتكلمين الإسلاميين، حتى ألجأهم ذلك إلى تأويل النقل إن خالف العقل. 
  • القسم الرابع: التهوين من شأن الفلسفة اليونانية، ولم يعتبرها شيئا جديدا على الفضاء الإسلامي، فهي في الحقيقة، بنظر ابن حزم، من حيث معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس هو شيئا غير إصلاح النفس، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن السياسة للمنـزل وللرعية، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة. 
  • القسم الخامس: رغم أنهم اعتبروا الفلسفة والمنطق بمثابة علوم الآلة التي ينبغي الاستفادة منها، إلا أنهم انتقدوا الاستفادة منها، في ما يتعلق بالإلهيات ونبهوا إلى اختلاف المنطلقات العقائدية بين التصور الإسلامي والفلسفة اليونانية، وأبرز من يمثلهم متكلمي الأشاعرة كالغزالي، إلا أنه تأثر ببعض الأقوال غير المرضية فاعتبر أن من لا يعرف المنطق ففي علمه شك؛ حيث قال: نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان ونذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا. انظر: ( المستصفى جزء 1 صفحة 10 ). علما بأن الشافعي ألف كتاب الرسالة الذي يعتبر التأسيس الحقيقي لعلم أصول الفقه وكيفية الاستدلال للوصول إلى الحكم الشرعي دون أن يعرف منطق اليونان أو فلسفتهم.  
  • القسم السادس: حمل راية محاربة الفلسفة والمنطق اليوناني واعتبرهما خطرا على العلوم الإسلامية كابن خلدون وابن تيمية، وقد تمكن ابن تيمية من الرد على المنطقيين بالعديد من كتبه وفتاويه ككتاب الرد على المنطقيين ودرء تعارض العقل والنقل. ورغم أن جهود ابن تيمية أدت إلى محاصرة المذهب الأشعري وإعاقة توسعه، وخاصة ما يتعلق بالاهتمام بالمنطق والفلسفة إلا أن العقيدة الأشعرية والماتريدية لم تسلم من آثارهما خاصة فيما يتعلق بتأويل صفات الله، هذا على الرغم من أن الأشاعرة والماتريدية أسهموا اسهامات مقدرة في الرد على الفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة والباطنيين والملاحدة. ( أنظر: أثر الفلسفة والمنطق في العلوم الإسلامية.. نقد وتركيب: مدخل إلى بحث ابستيمولوجي في العلوم الإسلامية د. محمد همام). 

 دور العلماء المسلمين في علم الفلسفة والمنطق

 

أولا: كيف انتقلت هذه العلوم إلى المسلمين؟

مرت عملية انتقال العلوم العقلية والفلسفية عبر ثلاث مراحل: 

  • الأولى: بدأها خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في العصر الأموي، وكان الاهتمام بترجمة كتب الكيمياء، حيث اطلع على اهتمام غير المسلمين بهذه العلوم وفائدتها للصناع. 
  • الثانية: في عهد الخليفة العباسي المنصور بعد أن أنشأ مدينة بغداد. 
  • الثالثة: وهي المرحلة الرسمية والتي بلغت أوجها في عهد الخليفة العباسي المأمون الذي أنشأ عام 215 هجرية مركز للترجمة أسماه بيت الحكمة. انظر: ( مناهج البحث في العلوم الإنسانية بين علماء الإسلام وفلاسفة الغرب, د. مصطفى حلمي ص 210) 

اقرأ عن بيت الحكمة في بغداد

ثانيا: نظرة الغرب لدور العرب في الفلسفة

اعتبر بعض المستشرقين أن الفلسفة الإسلامية ليست سوى فلسفة مكتوبة بحروف عربية ولكن أصلها إغريقي بكل التفاصيل، وأنها إعادة لإنتاج ما قاله أفلاطون وأرسطو؟ ودور الفلاسفة العرب هو النقل والشرح وإحياء فلسفة اليونان ومنطقهم وكانوا جسرا أمينا لتصل إلى الغرب في بدايات عصر النهضة الأوروبية، ودليلهم على ذلك هو أن الفرد العربي قاصر على إبداع صيغ فلسفية متكاملة. فمثلا يرى تنمان في كتابه المختصر في تاريخ الفلسفة أن القرآن الكريم يعوق النظر العلمي الحر – القرآن الكريم يحث على التعقل والتدبر والتفكر في عشرات الآيات – وحزب أهل السنة المتمسك بالنصوص وأن الطبيعة القومية للعرب تميل للتأثر بالأوهام وقبلوا أن يكون أرسطو سلطانا مستبدا على عقولهم، ولكن في الآونة الأخيرة برزت هناك آراء منصفة لدور العرب والمسلمون في هذا العلم وخاصة ما يتعلق بالمنهج العلمي التجريبي. (انظر: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية. د. مصطفى عبد الرازق ص55). 

ثالثا: نظرة العرب المعاصرين لدورهم في الفلسفة

أدى انقسام العلماء الأوائل في التعامل مع الفلسفة وغلبة تيار الرفض المطلق أو الاستفادة منها كآلة فقط إلى مواجهتها من قبل جماهير العلماء على مر التاريخ الإسلامي، وانقسم رأي العلماء المعاصرين إلى ستة أقسام: 

الأول: يمثله د, مصطفى عبد الرازق” في كتابه تمهيد تاريخ الفلسفة الإسلامية وميز بين ثلاثة أدوار وهي: 

– مرحلة النشأة: هذه المرحلة تفسر خصوصية الفكر الإسلامي. 

– مرحلة التفاعل مع المؤثرات الخارجية 

– مرحلة الإنتاج والإبداع. 

ويخلص مصطفى عبد الرازق من هذا التقسيم إلى أنه يجب علينا أن ننظر إلى الفكر الإسلامي نظرة تطورية مع الحفاظ على أصله، ويؤكد أيضا أن للفكر الإسلامي وعي متميز استمده من ذاته وليس من الخارج، وسعى “مصطفى عبد الرازق” أيضا إلى مد الجسور بين الفلسفة والفقه. 

الثاني: يمثله “ماجد فخري” والذي يعبر عن أسف شديد تجاه كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، لأن القسم الأول والثاني من الكتاب يتمحور حول أخذ ورد مع المستشرقين، كما يؤكد “ماجد فخري” أنه يتضح لنا من خلال فهرست الكتاب أن كتاب “مصطفى عبد الرازق” لا يدور حول الفلسفة الإسلامية بالمعنى المتعارف عليه، أي بالمعنى الذي اصطلح عليه فلاسفة الإسلام؛ الكندي والفارابي. كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” لصاحبه “مصطفى عبد الرازق” ليس دراسة للفلسفة الإسلامية كما يدعي المؤلف بل هو تطور لمفهوم الفقه وعلم الكلام بالدرجة الأولى عند الإسلاميين، وتطور مفهوم الفلسفة عند العرب بالدرجة الثانية، وهذا الكتاب تغيب فيه المعارف الموضوعية حسب “ماجد فخري”. 

هنا يتساءل فخري كيف يمكن لهذا الكتاب الذي تغيب فيه المعارف الدقيقة أن يدافع عن أصالة الفلسفة الإسلامية؟ إن هذا الكتاب في الأصل -حسب فخري دائما- هو عرض لمجموعة من النصوص الفِقهية والكلامية، وليس في صلب دراسة الفلسفة الإسلامية. 

ويؤيده في هذا الموقف أيضا د.محمد عابد الجابري حيث يرى إن “مصطفى عبد الرازق” حاول جاهدا الدفاع عن أصالة الفلسفة الإسلامية، ليؤكد أن المفكرين العرب كالكندي والفارابي وابن رشد قد أنتجوا فلسفة نسقية، ولكن للدفاع عن الفلسفة الإسلامية يجب عليه أولا أنْ يكون موضوعيا، لقد غلبت عليه النزعة العربية، ولو تحدثنا بكل موضوعية فإننا سنقطع الشك باليقين أن العرب لم يستطيعوا إنتاج فلسفة خاصة بهم، بل إن ما قاموا به هو شرحهم للمتن الإغريقية، وتطوير بعض الأفكار فقط. انظر: (هل أنتج العرب فلسفة إسلامية؟ سفيان البراق مدونات موقع الجزيرة) 

الثالث: ويمثله شيخ الأزهر الأسبق د. عبدالحليم محمود والذي يرى أن الفلسفة لا تصل إلى اليقين أبدا، وفي موروث المسلمين الثقافي ما يغني عن كل فوائد الفلسفة والمنطق الممكنة وهي النظر والبحث والتأمل فهذا ما تدعو إليه الشريعة كما يقول ابن حزم، ويؤيده تقريبا أغلب العلماء اليوم. (انظر موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة للدكتور عبدالحليم محمود ص 222-232)   

الرابع: التمييز بين الفلسفة المفيدة والضارة ويتمثل في التحذير من الفلسفة الضارة والتي تتمثل بما يلي: 

الأول: جَعْلُ الطرائق الفلسفية أحد مصادر المعرفة في القضايا الغيبية؛ كالعقيدة في الله وحقيقة الوحي والنبوة واليوم الآخر وما شابهها، فهذه القضايا الغيبية لا سبيل لمعرفتها إلا من طريق الوحي، وكل محاولة للوصول إليها عن طريق العقل والرأي فهي مخالفة لما قرّره الوحي أولا، ومخالفة أيضًا لما تحدّده الأدوات العلمية من أنّه لا سبيل للعقل في معرفة الغيبيّات والخوض فيها، وكلُّ خوضٍ للعقل فيها بمعزل عن الوحي فهو خبطٌ في التيه بلا دليل. 

الثاني: تناول قضايا العقائد والدين واللغة بقواعد الفلسفة والرياضيات، فإنّ منطق الدين والعربية مختلفٌ عن منطق الفلسفة والرياضيات، وسأطرح في هذه التدوينة بعض النماذج. 

الثالث: الخوض في قضايا لا يُبنى عليها عمل ولا نفع لها في الدين أو في الدنيا، وهو ما يميّز الكثير من قضايا الفلسفة، بخلاف “الفلسفة العملية للإسلام”، التي تأخذ بالحسبان النفع الأخروي أو الدنيوي من كل علم. 

إنّ كل نقدنا للفلسفة يكاد ينحصر في هذه النقاط الثلاثة، أما إذا كان المقصود بالفلسفة أو الاشتغال الفلسفي بيان الأسس النظرية والمفاهيم الأساسية لمجال ما؛ كالحديث عن فلسفة العلوم في الإسلام مثلا، أو فلسفة الإسلام بمعنى فكرته الكلية عن الله والكون والحياة والإنسان، فهذا تنظيرٌ محمودٌ لا شكّ في ذلك، وهو شيءٌ أمارسه فيما أكتب، فسواء أسميناه اشتغالا فلسفيّا أو فكريّا فلا مشاحة في الاصطلاح. وإنما أذكر هذا ليكون واضحًا أنّني إنما أذمّ من الفلسفة ما كان خبطا في الغيبيّات بلا دليل، أو ما كان تناولا لقضايا الدين بغير أدواتها العلمية الصحيحة، أو ما كان خوضا في قضايا لا تُبنى عليها منفعة دينية أو دنيوية. وهذا هو تحديدا الذي ساهم -في نظري- في إفساد العلوم الإسلامية، وليس مجرّد التنظير أو وضع الأطر المفاهيمية لمختلف الظواهر والمجالات الفكرية. انظر: (كيف أفسدت الفلسفة العلوم الإسلامية؟ شريف محمد جابر مدونات موقع قنات الجزيرة)

الخامسمتعصبة الأشاعرة وأيتام المعتزلة الذين جعلوا من مناهضة التيارات السلفية التي تنتسب إلى الوهابية منهج حياة لهم، فحرصوا وألبوا على إخراجهم من دائرة أهل السنة والجماعة، وما زال منهم للأسف من يعتبر الفلسفة والمنطق الطريق الذي يجب أن يسلكه العالم المسلم ليكون عالما، وإلا فإن في علمه شك، مستندين في ذلك إلى رأي حجة الإسلام الغزالي، ولم يأخذوا بنصيحة مجرب درس الفلسفة في عقر دارها وقدم خلاصة تجربته في كتاب د. عبدالحليم محمود المشار إليه سابقا. 

السادسالتيار السلفي المنتسب إلى الوهابية، الذي اضطر إلى دراسة الفلسفة والمنطق، لتدميرها من الداخل واستخدامها للرد على متعصبة الأشاعرة والفرق المبتدعة الضالة، مقتدين بإمامهم وقدوتهم شيخ الإسلام ابن تيمية. 


أثر الفلسفة والمنطق اليوناني على العلوم الإسلامية

أثارت فتنة داخل الفضاء الإسلامي، وأحدثت توترات في التقائها ببعض العلوم، مما سبَّب للأخيرة متاعب داخل مجالها التداولي. ولم يبعد الرأي المعرفي العام من الفلسفة اليونانية، ومن حملتها من الشراح والملخصين والمبشرين بها، عما قاله ابن سبعين فيهم: “كلهم خلط وتكلم وطنطن وتبرسم ولم يأت بفائدة ولا دلَّ عليها. ووقف في وجه فلسفة اليونان علماء كلام، وأصوليون، وفقهاء، وحاربوها أشد محاربة، وأعاقوا عملياتها التداخلية مع العلوم الإسلامية. وكان للغزالي دور كبير في الانقضاض الأكبر عليها، برغم أنه من كبار علماء التداخل المعرفي والعلاقة بين العلوم. ( أنظر: أثر الفلسفة والمنطق في العلوم الإسلامية.. نقد وتركيب: مدخل إلى بحث ابستيمولوجي في العلوم الإسلامية د. محمد همام)

لو تتبعنا الأثر السيء للفلسفة على علم التوحيد الذي نشأ وتطوّر في ظلال الحضارة الإسلامية وبأثر من الوحي، سيظهر لنا الأثر السلبي على الفلسفة اليونانية. كتب الإمام الغزالي في مقدمة كتابه الكبير “إحياء علوم الدين” عن مجموعة من الألفاظ التي انحرف مفهومها عند العلماء، ومنها ألفاظ “العلم” و”الفقه” و”التوحيد” فقال:  “وقد جُعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدّق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقّب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وسُمّيَ المتكلمون العلماء بالتوحيد، – وهم المعتزلة – مع أنّ جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يُعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتدّ منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة… وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين، وإنْ فهموه لم يتصفوا به وهو: أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله، فهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل كما سيأتي بيانه في كتاب التوكل، ومن ثمراته أيضا ترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم والرضا والتسليم لحكم الله تعالى…”. أنظر: (كيف أفسدت الفلسفة العلوم الإسلامية؟ شريف محمد جابر. مدونات موقع الجزيرة) 

ويكفي الاطلاع على باب الأسماء والصفات وكيف أثرت الفلسفة فيها على تبلور معتقدات بعض الفرق من حيث التعطيل فالله يسمع بلا سمع ويتكلم بلا كلام ويبصر بلا بصر وذلك خوفا من تشبيه الله بالمخلوق. ولك أن تقرأ عن فتنة خلق القرآن وكيف ألزم المأمون ومن شايعه من المعتزلة لعقد محاكم التفتيش لالزام العلماء على القول بخلق القرآن، حتى وصل بالخليفة الواثق أن يرفض فك أسرى المسلمين الذين لا يقولون بخلق القرآن.  انظر: (تاريخ الطبري ج٥ ص١٨٨ وما بعدها، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي ج١١ ص ١٦٤) 

الخلاصة

من الاستقراء والبحث والاطلاع على مختلف الآراء والمواقف وحقيقة الفلسفة نخلص إلى ما يلي: 

  • نشأت الفلسفة والمنطق اليوناني في بيئة ثقافية وثنية تناقض بالمطلق البيئة الإسلامية ذات الموروث الحضاري المستند إلى الكتاب والسنة والتي لها رؤية واضحة وصافية حول الأسئلة الوجودية الأساسية من خلق الكون وما هي صفاته ولماذا خلقنا وإلى أين مصيرنا. 
  • إن كانت الفلسفة والمنطق تدعوان إلى النظر والبحث وفهم ماهية العلوم فلا مشكلة مع ذلك ولكن هذا من أساسيات الشريعة التي أول آية نزلت فيها اقرأ باسم ربك الذي خلق …. الذي علم بالقلم، والتي فيها وعلم آدم الأسماء كلها وهو ما يشير إلى حد وصفة كل شي خلقه الله. 
  • وأما الفلسفة في مجال ما وراء الطبيعة فهي لا تدعو إلا الى الالحاد حيث يستغرب الفلاسفة الجدد كيف يقرأ انسان في الفلسفة ثم لا يكون ملحدا. 
  • قد أثرت الفلسفة في العلوم الاسلامية تأثيرا سيئا ما زالت آثاره مستمرة رغم جهود العلماء التي ردت عليه بمنطقه ودمرته من داخله ولكن الأهواء والسياسة ما زالت تلعب دورا كبيرا.  
  • يجب ألا يحرج العربي المسلم من موقف العلماء الأوائل من الفلسفة، فليس كل علم مفيد، والا فيجب ان نؤلف في علم السحر حتى نقول ان المسلمين سبقوا الغرب أيضا في هذا العلم. 
  • بحيادية علمية ونظرة فاحصة كان دور العلماء العرب والمسلمون في الفلسفة والمنطق هو الاحياء من جديد، والشرح مع بعض الاستدراكات. 
  • يكفي المسلمون أنهم علموا العالم المنهج التجريبي العلمي، والا لكانت النهضة الأوروبية تأخرت قرونا أخرى. 
  • حتى ينهض المسلمون من تخلفهم عليهم العودة إلى النبع الصافي القرآن والسنة، والأخذ بمنجزات الحضارة الغربية الحديثة التي أخفيت جهود وإنجازات العرب والمسلمين التي مكنت النهضة الأوروبية من البناء عليها عمدا او جهلا، فالحضارات الإنسانية مشاعل كلما خبت أحداها تلقفها ورفعها قوم آخرون …. وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .

تساؤلات

  • مرت حوالي 2600 سنة على هذه المواضيع، فهل البشرية لم تصل إلى اجابات محددة؟ ومتى ستصل؟ ومليارات البشر الذين عاشوا سابقا ولم يعرفوا اجابات هذه الأسئلة كيف عاشوا حياتهم وعمروا الأرض؟ 
  • تملك الأديان الإجابات الواضحة والمدعمة بالمعجزات التي جاء بها الأنبياء لجميع هذه الإجابات، فمن كون الله سبحانه وتعالى كان ولا شيء قبله، ثم خلق الخلائق  كالعرش والماء والهواء والسموات والأرضين والكواكب والنجوم والمجرات والملائكة والجن والبشر، وكيفية خلق الله سبحانه وتعالى آدم أبو البشر وكيف عصى الله عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها وكيف طلب من الملائكة السجود تكريما له وكيف عصى ابليس تكبرا فغضب الله عليه ولعنه، ثم كيف أنزل الله آدم وابليس الى الارض وبين الهدف من خلق البشر وهو لعبادة الله وحذرهم من اتباع الشيطان. 
  • أي نقاش في هذه الأمور دون اعتماد الاجابات التي قدمتها الأديان هل يؤدي إلا إلى الشك والإلحاد؟

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *