شهد تاريخنا العربي الإسلامي جرائم قتل وظلم واضح، فلعبت العاطفة والمظلومية دورا هاما باستغلال هذه الأحداث لصالح قوى سياسية ومجتمعية ودينية مختلفة، كما يحصل الآن في حادثة اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة.
فقد غيرت حادثة قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه عام 35 هجرية تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة، وتسببت بفتنة هوجاء قسمت المجتمع المسلم والدولة الإسلامية إلى أحزاب وفرق سياسية وعقائدية، وتمكن الصحابي معاوية بن سفيان رضي الله عنه من الاستفادة من هذا الحادث المروع، فرفع قميص عثمان الملطخ بدمائه طالبا القصاص من قتلته الذين باتوا يشكلون أساس جيش الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ إلى أن قتله الخارجي عبدالرحمن بن ملجم عام 40 هجرية، ولم تستقر الدولة الإسلامية إلا عندما تنازل الخليفة الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة عام 41 هجرية بعد أن بايعه المسلمون في المدينة كخليفة خامس بعد أبيه؛ بما سمي لاحقا عام الجماعة أي اجتماع كلمة المسلمين بعد سلسلة من الحروب الداخلية بدءا بمعركة الجمل عام 36 هجرية ثم صفين عام 37 هجرية ثم النهروان عام 38 هجرية وغيرها.
ثم جاءت كارثة وفجيعة الأمة بمقتل الحسين بن علي عام 61 هجرية، واستغل الشيعة هذا الحادث أسوأ استغلال ففرقوا جماعة المسلمين وتطورت فرق الشيعة التي أحدثت فهما خاصا للإسلام وابتدعت عقائد وطقوس تعبدية استغلالا لحادثة قتل الحسين رضي الله عنه، كما تمكن العباسيون بعد 61 عاما من اسقاط الدولة الأموية اعتمادا على هذه الحادثة وغيرها.
اغتيال شيرين أبو عاقلة
وجاءت حادثة اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة، بتاريخ 11/5/2022 وذلك قبيل ذكرى النكبة، وكان المطلوب هو الاستفادة من هذه الحادثة المؤلمة النكراء لإدانة اسرائيل وإظهار وجهها القبيح الذي كان وما زال وسيستمر في إجرامه وبشاعته حتى يندحر الاحتلال عن أرض فلسطين عما قريب بإذن الله.
ولكن…. وضع ألف سطر تحت لكن:
تمكن الذباب الإلكتروني للكيان الصهيوني من حرف بوصلة العرب والمسلمين قليلا عن حادثة الاغتيال المنكرة وشغلهم بمناقشة جواز الترحم والاستغفار لأيقونة الصحافة العربية التي اغتالتها اسرائيل لإسكات صوت الحق والحقيقة التي أوصلت الظلم والمعاناة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني على يد هذا الاحتلال الغادر.
وأصبحت مسألة الفتوى بجواز أو حرمة الترحم والاستغفار لشيرين أبو عاقلة هي الشغل الشاغل لمواقع التواصل الاجتماعي وفوجئ الناس بوجود آلاف المفتين الذين يتبادلون الخلاف والتراشق الاعلامي.
حدود العقائد الثابتة وحدود التعايش الاجتماعي
مثلت صحيفة المدينة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة، أول دستور يحدد علاقات الدولة الإسلامية مع غير المسلمين؛ حيث اعترف الإسلام بمواطنة غير المسلمين وحدد حقوقهم وواجباتهم، بل وأباح الزواج من نساء أهل الكتاب وأحل ذبائحهم، ولم يتعرض أحد إلى معتقدات الآخر، فالمسلم في عقيدة اليهود والنصارى كافر لا يدخل الجنة، وغير المسلم في عقيدة المسلمين لا يدخل الجنة إن مات على غير ملة الإسلام، (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين)، (إن الدين عند الله الإسلام).
تفكيك الخلاف
انحصر الخلاف على جواز الترحم حيث أجمع الكل أنه لا يجوز الاستغفار لوجود آيات صريحة تحرم ذلك – ليس هدف المقال الدخول في هذا الخلاف بشكل تفصيلي وتأصيلي – وحتى من يرى جواز الترحم على غير المسلمين هو يعترف أن فائدة هذا الترحم لن تكون ابطال صريح الآية (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين) فلن تكون نتيجته هو ادخال من مات غير مسلما وقد بلغته دعوة الإسلام الصحيحة إلى الجنة واخراجه من النار، فلم يمنع وقوف عم النبي أبي طالب مع النبي صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه من دخوله النار، بيد أنه استفاد أنه أخف الناس عذابا في النار روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو ينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه”.
بيد أن جميع علماء المسلمين يتفقون أن أحدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يخبرنا أن معينا باسمه في الجنة أو النار فهذا منهي عنه ويعتبر من باب التألي على الله، فقد روى مسلم في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك.
من الذي استفاد من هذه الفتنة؟
إن الخلط المقصود بين العقائد والتعايش الاجتماعي بين مختلف مكونات الأمة العربية والاسلامية خلط مقصود نشره الذباب الالكتروني الصهيوني، بهدف التستر على الجريمة، واشغال الفلسطينين بمعارك كلامية دينية، وتخفيف الضغط الدولي بضرورة التحقيق في الجريمة. كما استغل العواطف الجياشة متطرفو النصارى حتى بدأ أحدهم يصرح بأن الفتح الإسلامي العربي للقدس وبلاد الشام هو احتلال لا بد أن يزول يوما ما، واستغله أيضا العلمانيون الذين يرفضون أن يكون للدين مكانة مقدسة عند المسلمين فتحولوا إلى مفتين وعلماء لاحراج المسلمين، واستغلالا للعواطف بهدف تنحية الدين الإسلامي عن المجتمع ونظمه.
شيرين أبو عاقلة… تحويل المحنة إلى منحة
رأى العالم كيف حمل أهل فلسطين نعش شيرين أبو عاقلة مسلمين ومسيحين، بل والذي كان يرفع النعش ويحميه من اعتداءات الاحتلال هم المسلمون يدًا بيد مع إخوانهم المسيحين، كما شاهد العالم كيف شاركت مختلف القوى والفصائل والعلماء من جميع الاتجاهات في التعزية الصادقة بوفاة شيرين التي اعتبرت أيقونة الكلمة الحرة وأطلق عليها الشعب الفلسطيني شهيدة الصحافة الفلسطينية.
إذا بوعي الشعب الفلسطيني ردت هذه الفتنة في وجوه من أثاروها وها هو الاحتلال فقد بريقه عند من طبع من العرب معه وشعر بالخزي والعار لانكشاف وجه اسرائيل القبيح والذي سيبقى قبيحا حتى يزول هذا الاحتلال بإذن الله.
كما تمكن الشعب الفلسطيني من تحويل هذه المحنة إلى منحة من خلال تدعيم الصف الداخلي وتوحيد جهود مختلف القوى الفلسطينية لفضح جرائم إسرائيل دوليا واجبارها على دفع الثمن المستحق والذي أقله هو رفع يدها عن فلسطين وشعبها.
وأخيرا …. ما لكم كيف تحكمون
للأسف يشعر بعض جهلة المسلمين بالحرج من اتباع الثوابت العقائدية في التعامل مع غير المسلمين وتناسوا أن التاريخ لم يشهد دينًا متسامحًا ومستوعبًا لغير ملته كما أثبت المسلمون في كل تاريخهم:
– فلم يجبر أحد على تغيير دينه.
– لم تهدم معابد غير المسلمين.
– لا يكتمل إسلام المسلم دون أن يؤمن بجميع الأنبياء ويؤمن بالكتب المنزلة قبل القرآن التوراة والإنجيل.
– مفهوم الجزية في حقيقته هو اعتراف بالخضوع للدولة المسلمة نظير تقديم الحماية لغير المسلمين من أهل الكتاب ومن في حكمهم، وترد عليهم إن لم تتمكن الدولة المسلمة من تقديم هذه الحماية، وهي تقابل الزكاة المفروضة وفق ضوابط محددة على المسلمين.
فأي دين أو ملة أو قوة في التاريخ تعاملت مع شعوبها كدولة الإسلام، يكفي استعراض التاريخ القديم والحديث ليتبين الفرق.