بدأنا حلقات هذه السلسة (معركة الخلافة) للحديث حول المعارك والفتن التي وقعت بين المسلمين بسبب تحول الخلافة إلى مُلك وراثي، واليوم نختتم هذه الحلقات والدراسة مع مجموعة من الاستنتاجات.
ملاحظة: درسنا في هذا البحث مسألة الخلافة الإسلامية، مع اعترافنا أن الواقع الحالي بين المسلمين يوضح أن الحكم الملكي الوراثي أرحم وأفضل قياسًا بالأنظمة الديكتاتورية الأخرى.
معارك الخلافة
إن استمرار معارك الخلافة مدة 23 عاماً ليدل دلالة واضحة عن رفض الأمة الإسلامية للملك الوراثي، ومجاهدتها في سبيل تغيير هذا المنكر كما يوضح أن العلماء هم دائماً وأبداً قادة الثورات في المسلمين، وهم الذين يتحملون عبء الجهاد والتحضير له ويؤكد من ناحية أخرى دور العلماء السياسي في تلك العهود المشرفة من عهود الأمة الإسلامية.
ونظرة سريعة على تلك الثورات يتبين أن سمتها الأساسية الاستعجال وعدم التخطيط المتأني والتسرع في قطف الثمار قبل نضجها فالحسين رضي الله عنه رفض مشورة الجميع، وانطلق مسرعاً ليحقق هدفه السامي وهو تغيير المنكر وإزالة الجور.
وهذه الثورات وإن فشلت جميعها تقريباً لم تمر في دنيا المسلمين هكذا دون تأثير، فإن قمعها الدموي وسقوط صحابة وتابعين لهم وزنهم ومكانتهم في نفوس الشعب ولد كرهاً عاماً لحكم الأمويين وسخطاً عارماً ظل يتردد وينتقل من جيل إلى جيل حتى قوض صرح الأمويين بعد مدة تعتبر قصيرة في أعمار الدول.
درس محمد بن علي بن عبد الله بن العباس جميع هذه الثورات ورأى فشلها وأسبابه وعرف أن التسرع والتهور أحياناً لن يؤتي بنتيجة، وإن لم يبدأ العمل السري والتخطيط الواعي واختيار بؤرة الثورة فلن تكون هنالك فائدة في الثورة وظل العمل والتحضير للدعوة سرياً مدة 28 عاماً من 100 هـ حتى 128 هـ، وليس جديدا أن الثورة العباسية كانت كامتداد طبيعي لحركة الحسين والشيعة من بعده حتى أنها رفعت شعار (الرضا من آل محمد) وهذا من عمق فهم محمد بن علي للظروف السياسية التي تموج في عصره واستغل السخط على الأمويين والظلم الاجتماعي وخلط جميع هذه الأوراق لينتج انقلاباً ناجحاً، وأنا لا أشك أبداً بأن الثورة العباسية الناجحة ما هي إلا أثر من آثار معارك الخلافة.
والقمع الأموي لهذه الثورات ليعطي عبرة للمتسلطين والظالمين أن القتل وسفك الدماء لن يحل مشكلة بل الحوار الهادئ خاصة لمن يطالبون بمطالب شرعية وصحيحة وبناءة فماذا أفاد الأمويين سفك الدماء؟ هل قمعت الثورات؟ أبداً لم تنقطع بتاتاً واستمرت بعد 83 هـ بأشكال مختلفة حتى وصل صداها إلى الثورة العباسية التي أسقطت الأمويين.
إنه إيمان بدر وحُنَين إنه زلزال تكبير الحسين
إن الدراسة الموضوعية لمواقف الصحابة جميعهم الثائرين والساكتين لتبين بوضوح أن الإنسان المتجرد يجب أن يقف باحترام وتقدير لهم جميعاً مع اختلاف مواقفهم فالساكت لم يسكت عن جبن وخوف حاشا لله، بل كانت لكل منهم أعذار وفهم لنصوص الشريعة، وعلى هذا الأساس تحرك وتصرف.
ومع التسليم في هذه الحقيقة إلا أنه يبقى لنا تساؤلات حول الفتن والاعتزال فيها وحول دخول العلماء في معترك الصراع السياسي. وحول علاقة القرآن والسلطان.
إن تجربة الأمة الإسلامية ومن خلال دراستي لهذا الموضوع وهو مواقف العلماء في تحول الخلافة إلى ملك وراثي تجعلني أطرح تساؤلات حول موقف الذين لم يحملوا السلاح ضد هذا المنكر الخطير، بلا شك أنهم وازنوا بين أخف الضررين ووجدوا أن القتال سيجلب أضراراً وفتناً لا فائدة للمسلمين بها، وإن صدق رأيهم ولكن لماذا لا ننظر إلى المسألة من وجه آخر، ونقول لو وقف جميع العلماء والصحابة ضد إرادة معاوية ماذا كانت النتيجة أقول وأؤكد أن الأمر بقي شورى بين المسلمين.
لا يمكن أن تكون أقوال النبي صلى الله عليه وسلم طريقا لتثبيت منكر وحكم جائر فأحاديث اعتزال الفتن وأنه ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي لا أعتقد أن الصحابة الذين فهموها على أساس اعتزال القتال ضد الطغاة والباغين والظلمة واعتقد أن فهم بعض الصحابة لحديث: “إذا تقاتل المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار” مما أدى بالبعض إلى الاعتزال أجزم بأن مفهومهم لم يكن سليماً أبداً بدليل وجود علي رضي الله عنه وقتاله ودليل ندم ابن عمر رضي الله عنه على عدم اشتراكه مع علي في القتال ضد عائشة ومعاوية رضي الله عنهما.
ومع وجود الأحاديث التي تبين أن الخلافة سوف تنقلب إلى ملكاً فهي أحاديث تدل على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يعطي للإنسان عذرأ في ترك الحكم للتحول إلى ملك وراثي، فكما أنه توجد أحاديث تدل على انتشار العري بين النساء فهل معنى ذلك أن يقف العلماء موقف الحياد من هذه المنكرات عليهم أن يقاوموها ويجاهدوها، وأعتقد أن هذا المفهوم لم يراود أحد من الصحابة أبداً وجاءت مواقفهم مع تطور الظروف وذكاء الأمويين وسوء إدارة وتخطيط القوى الأخرى، كأسباب لتحول الخلافة من الشورى الي الملك الوراثي.
ولا بد من الإشارة أن ثورات أهل السنة التي قامت ضد الأمويين والتي نجحت كالثورة العباسية تحولت إلى الحكم الوراثي ولم ترجع إلى نظام الخلافة القائم على الشورى والاختيار.
كتبه أحمد العبد الجليل