ثورة لإرجاع الخلافة شورى

إرجاع الخلافة شورى

بدأنا حلقات هذه السلسة (معركة الخلافة) للحديث حول المعارك والفتن التي وقعت بين المسلمين بسبب تحول الخلافة إلى مُلك وراثي، واليوم موعدنا مع آخر حلقات معركة الخلافة لإرجاع الخلافة شورى.

ملاحظة: ندرس في هذا البحث مسألة الخلافة الإسلامية، مع اعترافنا أن الواقع الحالي بين المسلمين يوضح أن الحكم الملكي الوراثي أرحم وأفضل قياسًا بالأنظمة الديكتاتورية الأخرى.

ثورة لإرجاع الخلافة شورى

سنة 76هـ (1) استدعى مطرف بن المغيرة بن شعبة والي العراق بعض الخوارج ليسألهم عما يدعون إليه فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفرد وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية. فقال لهم: ما دعوتهم إلا حق وما نقمتم إلا جور ظاهراً أنا لكم متابع، فتابعوني على ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، فقالوا: اذكره فإن يكن حقاً نجبك إليه، قال: أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة على إحداثهم وندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يؤمرون من يرتضون على مثل هذه الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضى من قريش رضوا وكثر تبعكم و أعوانكم، فقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه وقاموا من عنده، وبعث الحجاج جيشاً فقاتل مطرف حتى انتصر عليه، وقتل مطرف.

وهذه الثورة لإرجاع الخلافة شورى تعبير صادق على ما يجيش في صدور الأمة من حب لاسترجاع حكم الشورى وتدل على أن فتح باب الشورى والحريات هو المطلوب شرعاً وعقلاً.

ثورة ابن الأشعث:

أرسل الحجاج عبد الرحمن الأشعث إلى سجستان لحرب الملك رتبيل ملك الترك، الذي نقض العهد وهجم على سجستان الإسلامية وهزم جيش المسلمين وقتل والي سجستان فسير إليه الحجاج عبد الرحمن الذي نجح في جولته الأولى نجاحاً عظيماً وفتح كثيراً من البلدان، ثم توقف من تلقاء نفسه زاعماً أن من الخير ألا يتعمق دفعة واحدة بل نأخذها مرحلة مرحلة في كل عام مرحلة، وكتب للحجاج بذلك، فأرسل إليه مسفهاً رأيه. فعرض الأشعث الأمر على جنوده واستشارهم أيطيع أم يخالف (2).

وكان أول من تكلم أبو الطفيل عامر بن وائلة الكناني وله صحبة وخلع الحجاج ثم تبعه الآخرون، ثم بايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق.

ثم ساروا إلى العراق فلما بلغوا فارس اجتمع الناس وقالوا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك فخلعوا عبد الملك إلا قليلاً منهم أيضاً وبايعوا عبد الرحمن على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم وجهادهم (3).

اتساع الثورة وانتصاراتها (4):

لما علم عبد الملك بالأمر جهز الجند إلى الحجاج فسار الأخير من البصرة ليلقي عبد الرحمن فنزل تستر وقدم بين يديه مقدمه إلى دجيل فلقوا عنده خيلا لعبد الرحمن فانهزم أصحاب الحجاج . فلما أتى خبر هزيمتهم الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن فقتلوا منهم وأصابوا بعض أثقالهم وأقبل الحجاج حتى نزل الزواية وجمع عنده الطعام وترك البصرة لأهل العراق ، وهي النصيحة التي وجهها له المهلب بن أبي صفرة حيث نصحه بترك أهل العراق لأن لهم شره في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم ، وإذا شموا أولادهم فليواقعهم عندها، ولما قرأ كتابه قال: لله دره أي صاحب حرب هو وفرق في الناس 150 ألف درهم.

أقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة فبايعه جميع أهلها في قتال الحجاج ومن معه من أهل الشام، وكان السبب في سرعة استجابتهم أنه لما أنكسر الخراج أمر بإرجاع الجزية على من أسلم من أهل الذمة فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه يا محمداه وجعل القُرّاء -وهم حفظة القرآن الكريم- يبكون لما يروه فبايعوا ابن الأشعث على خلع الحجاج وعبد الملك.

يوم الزواية (5):

وقعت في المحرم من سنة 82 هـ واقتتل جيش ابن الأشعث والحجاج قتالاً شديداً فتزاحفوا في المحرم عدة دفعات فلما كان آخر يوم من المحرم اشتد قتالهم فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه وقاتلوا على خنادقهم فجال أصحاب الحجاج وتقوض صفهم فجثا على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل له ما نزل وعزم على أنه لا يفر.

فحمل سفيان بن الأبرد الكلبي على الميمنة التي لعبد الرحمن فهزمها وانهزم أهل العراق، وأقبلوا نحو الكوفة وقتل منهم خلق كثير منهم عقبة ابن عبد الغافر الأزدي وجماعة من القرّاء قتلوا دفعة واحدة.

بقي عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب في البصرة فبايعه من بقي من جيش ابن الأشعث فقاتل خمس ليال أشد قتال رآه الناس ثم انصرف فلحق بابن الأشعث في الكوفة وقتل منهم طفيل بن عامر بن وائلة وأبوه من الصحابة .

وقتل الحجاج يوم الزواية 11 ألفاً خدعهم بالأمان منادياً منادي: لا أمان لفلان بن فلان، فسمى رجالاً فقال العامة: قد آمن الناس فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا.

معركة دير الجماجم (6):

وكانت في شعبان سنة 82 هـ حيث اجتمع لابن الأشعث أهل الكوفة، وأهل البصرة، والقُرّاء، وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم وكانوا 100 ألف وجاءت الحجاج إمداد من الشام وخندق كل منهما على نفسه فكان الناس يقتلون كل يوم ولا يزال أحدهما يدني خندق من الآخر.

التضحية بالحجاج (7):

ورأى عبد الملك أنه إن رضى أهل العراق بنزع الحجاج نزعناه فإنه أيسر من حربهم ونحقن بذلك الدماء، وأن ينزل عبد الرحمن أي بلد شاء من بلد العراق وهو واليا ما دام حيا وعبد الملك خليفة.

وبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان وعرضا على أهل العراق عزل الحجاج وتولية ابن الأشعث فاجتمع ابن الأشعث بشيعته يوم تستر ولأهل الشام يوم الزواية فرفضوا وخلعوا عبد الملك وكان اجتماعهم على ذلك أكثر من اجتماعهم في فارس.

التعبئة للمعركة (8):

قسم الحجاج جيشه، وقسم ابن الأشعث جيشه وكان في جيش ابن الأشعث كتيبة القُرّاء عليها جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.

نشوب الحرب (9):

والتحم الجيشان وأصاب أهل الشام ضنك شديد حتى غلت عليهم الأسعار وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسوادها وهم في خصب.

وكانت أقوى كتائب ابن الأشعث هي كتيبة القُرّاء، ودخلت سنة 83 هـ. وأعد الحجاج 3 كتائب فبدأ زعماء القُرّاء يشحذون العزائم وانطلق جبلة بن زحر ينادي: يا عبد الرحمن ابن أبي ليلى يا معشر القُرّاء إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منكم، وذكرهم بعلي بن أبي طالب وإنكاره المنكر وحثهم قائلاً قاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفوه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.

وقال الشعبي فقيه العراق: “أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم”.

واستمرت المعركة 103 أيام من 3 ربيع الأول حتى كانت الهزيمة في 14 جمادى الآخرة، فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا ، فبنيا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد ، وهو في ميمنة الحجاج على الأبرد بن قرة التميمي ، هو على ميسرة عد الرحمن ، فانهزم الأبرد بن قرة من غير قتال يذكر فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس ، فلما انهزم تفوضت الصفوف من نحوه وركب أناس بعضهم بعضاً ، وفر عبد الرحمن بن الأشعث.

معركة مسكن (10):

ولما انهزم عبد الرحمن أتى البصرة واجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير ، وحلت الهزيمة أيضاً بعبد الرحمن وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي ، وفر عبد الرحمن إلى رتبيل (11) فطلبه الحجاج فقتل نفسه وأرسلت رأسه إلى الحجاج.

وإن كان هناك من تعليق على المعارك وفتنة ابن الأشعث فإننا نلاحظ أن وقودها الرئيس هم العلماء والقُرّاء، ويكفي وجود الشعبي فقيه العراق، فما معنى خلع عبد الملك بن مروان وهو الخليفة الذي وطد الأمور واجتمع الناس عليه رضا ورهباً.

وإذا سلمنا أن القُرّاء صدموا بفرض الجزية على من أسلم وكانت سبباً مباشراً في خلعهم الحجاج فلماذا يتعدى الأمر إلى عبد الملك، خاصة وأنه لعنف المعارك وضراوتها  واجتماع أهل العراق ذلك الاجتماع الغريب حيث لم نسمع عن تخاذل منهم كما تعودنا في الثورات السابقة، عرض عبد الملك التضحية بمن ذلل له العباد ودحر الأعداء وهو الحجاج الذي يعتبر أحد مثبتي نظام عبد الملك، بل ويتنازل عبد الملك لابن الأشعث ويعرض عليه أن يوليه أي بلد شاء في العراق.

ولكن العلماء لم يرضوا بحقن الدماء والرضوخ إلى عروض عبد الملك وهنا يبرز تساؤل هام أليس هذا دليلاً على أنه متى توفرت القوة التي يكون بها غلبة الظن في تغيير المنكر فللمسلم أن يخرج على الخلفاء الظالمين لا سيما إن كانوا جاءوا بغير إرادة الأمة وأعتقد أن هذه الثورة واشتراك العلماء فيها دليلاً واضحاً على فهم التابعين لقضية تغيير المنكر وحدوده.

***

للتعرف على المصادر والمراجع الخاصة بحلقات معركة الخلافة، الرجاء الضغط هنا.

إعداد: أحمد العبد الجليل

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *