بدأنا حلقات هذه السلسة (معركة الخلافة) للحديث حول المعارك والفتن التي وقعت بين المسلمين بسبب تحول الخلافة إلى مُلك وراثي، واليوم موعدنا مع الجزء الثاني من معركة كربلاء ومقتل الامام الحسين رضي الله عنه.
ملاحظة: ندرس في هذا البحث مسألة الخلافة الإسلامية، مع اعترافنا أن الواقع الحالي بين المسلمين يوضح أن الحكم الملكي الوراثي أرحم وأفضل قياسًا بالأنظمة الديكتاتورية الأخرى.
وكادت المأساة ألا تقع…
بعث زياد عمر بن سعد بن أبي وقاص في آلاف كمدد للحر بن يزيد. ويورد الطبري روايات تبين أن الحسين لما رأى جيوش زياد علم أن أهل الكوفة قد خذلوه حقاً ولم يعد هنالك فائدة من محاولة الوصول إلى الكوفة ، فعرض على عمر بن سعد ثلاثة أمور إما أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو يضع يده في يد يزيد أو يسمح له بالمسير إلى ثغر من ثغور المسلمين وعندما قرأ ابن زياد كتاب عمر بذلك قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه. نعم قد قبلت.
وهنا قام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك والله لئن رحل من بلدك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز فلا تعطه. وهنا الكلام والله كلام رجل متعطش للدماء ووافق هوى الطاغية ابن زياد، فبعث بكتابه إلى عمر بن سعد يقول: (أما بعد لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوعه… انظر فإن نزل وأصحابه على الحكم واستلموا فابعث بهم إلى سلمًا، وإن أبو فازحف إليهم حتى تقتلهم) (1).
ويروي الطبري رواية عن عقبة بن سمعان وقد صحبا لحسين من المدينة حتى المعركة، نفى كل ما يشاع عن عروض الحسين وقال: “وإنما عرض عليهم أن يذهب في هذه الأرض العريضة حتى ينظر ما يصير إليه الناس”.
ويعلق محب الدين الخطيب على هذا العرض قال: (وهذا الطلب من الحسين لا يمكن قبوله لمن أوتي أقل نصيب من السياسة والتفكير خيفة أن يقوم الحسين بتحريض شيعته في الأمصار فتندلع الثورات والفتن) (2). وهذا هو نفس رأي بن ذي الجوشن، وحقاً إنه تفكير أهل السياسة الذين لا يقيمون الدين وخوف الله هادياً لهم في تصرفهم.
وتشير الروايات (3) إلى أن الحسين فعلاً كان عازما ًعلى تغيير خطته لما رأى وتيقن من انصراف الناس عنه فلقد أنطلق إلى الشام يريد يزيد فلقيته خيول ابن زياد بكربلاء ، فناشدهم الحسين الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين – ومعنى هذا اعتراف الحسين بخلافة يزيد ، وهو اعتراف اضطراري لما يتفق من انصراف الناس عنه واجتماعهم على يزيد ، وهذا يدل على دقة الحسين واهتمامه بالموازين الشرعية ، فالخروج على الخليفة كما بينا سابقا غير جائز ، وخرج الحسين ظنا منه أن الناس يرفضون يزيد ، ولكن خاب تقديره لأن الناس بدأوا يتعاملون بالدرهم والدينار ، وأصبحت القوة تخيفهم ، ورفض جيش ابن زياد هذا العرض مما جعل الحر بن يزيد يصرخ فيهم أن الديلم لو عرضوا عليكم ذلك ما كان يحل لكم إلا أن تقتلوه ، وانضم إلى الحسين واستشهد معه رحمه الله . وتبين هذه الرواية كذلك إلى تعطش جيوش ابن زياد للدماء . والذين يبرأون ابن زياد من تبعات مقتل الحسين مخطئون لأنه كان باستطاعة ابن زياد أن يسمح للحسين بالسير إلى الشام تحت رقابة عسكره حتى لا يثير الفتن كما يزعم شمر بن ذي الجوشن ولكن حب الدماء سبب كل هذا الأمر .
مقتل الامام الحسين رضي الله عنه
(4)وبعد فشل المفاوضات دارت المعركة بين الجانبين ، وحتى لا يؤتى الحسين من خلفه أمر بإشعال النار خلفه في مكان منخفض ، ويوم عاشوراء سنة 61 هـ دارت المعركة وبدأ أصحاب الحسين نفسه يتساقطون أمامه، حتى لم يبق إلا هو ولكنه لم يفتر رحمه الله فكان يحمل على الناس يمنة ويسرة، وإذا حمل عليهم تفرقوا فما رؤي مكثور قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ فقد ما منه.
ومكث طويلا من نهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كانوا يتقي بعضهم ببعض يحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء ، حتى صاح بهم الشمر وحرضهم فقتله زرعة بن شريك التميمي ، وعندما رأى زيد بن أرقم رأس الحسين عند ابن زياد ينكث بقضيب بين ثنيتيه قال: أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالله الذي لا إله إلا هو إني رأيت شفتي رسول الله على هاتين الثنيتين يقبلهما ثم خرج يبكي ويقول: (أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل، بُعداً لمن يرضى بالذل).
وكان عدة من قتل معه من أصحابه 72 رجلاً ودفنوا بأهل الفاضرية من بني أسد بعد قتلهم بيوم واحد. وقتل رحمه الله عن عمر 55 سنة.
آراء في ثورة الحسين
كثير من مفكري وعلماء أهل السنة يلومون الحسين رضي الله عنه ويخطئونه، فيرى القاضي بن العربي(5): (أن الحسين قتل بشرع جده، وهذا معناه أنه يعتبر الحسين من البغاة الذي تنطبق عليهم أحكام البغاة وهو القتل).
ويرى ابن خلدون (6): (أنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعته أهل البيت له بالقدوم إليهم فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك وظنها في نفسه بأهليته وشوكته، فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة، وأما الشوكة فغلط يرحمه الله).
ويرى شيخ الإسلام بن تيمية، أنه لم يكن في الخروج مصلحة بل لقد جر قتله وخروجه من الفساد والفتن الشيء الكثير.
ويحتد المؤرخ دروزة (7) على الحسين فيقول أنه إذا كان الحسين قد أبى أن يستسلم ليدخل فيما دخل فيه المسلمون وقاوم بالقوة فمقابلته وقتاله صار من الوجهة الشرعية والوجهة السياسية سائغاً.
وأما الشيخ محمد الخضري بك (8) فيرى أن الحسين اغتر ببعض كتب كتبها دعاة الفتن، ورمى بقول مشيريه جميعاً عرض الحائط ، ولقد أخطأ خطأ عظيماً في خروجه الذي جر على الأمة وبال الفرقة والاختلاف والذي أراه أن قوانين البغاة وأحكام الخروج على الخليفة لا تنطبق على الحسين ليحاكمها على ضوئها . بدليل عدم استعمال الصحابة ومعارضيه الناصحين لها ، كما أن يزيد لم ينتخب وإنما جاء بولاية العهد وكثير من الأمصار لم تكن لتريده لولا السيف والخوف، ومن ذلك يظهر رأي ابن خلدون المعتدل ، أن خطأ الحسين ولومنا عليه هو عدم تقديره لإمكانية الخروج وثقته بمن غدر بأبيه وأخيه كما يؤخذ على الحسين ضرب أقوال مشيريه عرض الحائط واستعجاله رحمه الله بتغير المنكر، مما يدل على بعد نظر من خالفه وصواب رأيهم وفهمهم لأحوال الناس وتطورات الظروف السياسية .
نتائج ثورة الحسين
صحيح أن الحسين استشهد وانتهت ثورته، ولكن هذه الثورة وأخبار مقتله ظلت تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، وأصبح الحسين رضي الله عنه رمزاً للثائر في وجه الطغاة.
وفجر مقتله ثورات متلاحقة بعده سنتعرض لبعضها وهي ثورة التوابين وثورة المختار، وأحدثت سخطاً إسلامياً عارماً في جميع الأمصار، ففجر ثورة ابن الزبير، وكان سبباً مباشراً بما ولد من كره لتصرفات يزيد كان سبباً مباشراً في ثورة أهل المدينة.
وبقيت لعنته تلاحق دولة الأمويين والثورات تتوالى من حولهم، وحمل أحفاده راية الثورة فثار زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة 122 هـ، وثار أخوه يحيى بن زيد في خراسان سنة 125 هـ واستشهد الاثنان رحمهما الله.
وعرفت الثورة العباسية كيف تستغل هذه العواطف، والشعوب أشد ما يحركها القدوات وخاصة من يقفون بقلة عددهم أمام الطواغيت، فاستغلت الحركة العباسية هذه المشاعر ونادت بالرضا من آل محمد، واستطاعت أن تقوض صرح بني أمية سنة 132 هـ أي بعد 71 سنة فقط من استشهاد الحسين.
***
للتعرف على المصادر والمراجع الخاصة بحلقات معركة الخلافة، الرجاء الضغط هنا.
إعداد: أحمد العبد الجليل