بدأنا حلقات هذه السلسة (معركة الخلافة) للحديث حول المعارك والفتن التي وقعت بين المسلمين بسبب تحول الخلافة إلى مُلك وراثي، واليوم موعدنا مع الحلقة الثامنة حول ثورة عبدالله ابن الزبير وخلافته.
ملاحظة: ندرس في هذا البحث مسألة الخلافة الإسلامية، مع اعترافنا أن الواقع الحالي بين المسلمين يوضح أن الحكم الملكي الوراثي أرحم وأفضل قياسًا بالأنظمة الديكتاتورية الأخرى.
ثورة عبدالله ابن الزبير
لما مات معاوية رضي الله عنه سنة 60 هـ بعث الوليد والي يزيد على المدينة لابن الزبير ليبايع فقال : الآن آتيكم ثم كمن في داره وجمع أصحابه واحترز فألح عليه الوليد وهو يقول أمهلوني ، ثم بعث أخاه جعفر ليهدأ من روع الوليد ووعده بالغد يبايعه ، فسار هو وأخيه جعفر في ليلته إلى مكة (1).
دخل عبدالله ابن الزبير مكة وعليها عمرو بن سعدي فلما دخلها قال: أنا عائذ بالبيت، ولم يكن يصلي بصلاتهم ولا يفيض بإفاضتهم وكان يقف هو وأخيه وأصحابه ناحية.
متى بدأ أمر عبدالله ابن الزبير
اختلفت الروايات في ذلك، فرواية الطبري(2) تؤكد أن أمره ابتدأ بعد مقتل الحسين عليه السلام في كربلاء سنة 61 هـ في 10 من محرم حيث خطب خطبة في أهل مكة ذكرهم فيها بقتل الحسين فقالوا له: أظهر بيعتك فإنه لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر… وقد كان يبايع سراً ويظهر أنه عائذ بالبيت، ويؤكد هذه الرواية ابن الأثير أيضا(3).
ثورة ابن الزبير في مكة
بعد انتهاء معركة الحرة أيقن عبدالله ابن الزبير أن الخطوة التالية عليه فاستعد هو وأصحابه. وسار مسلم بن عقبة المري إلى مكة فمات في الطريق وولى مكانه الحصين بن نمير السكوني.
ثم قدم الحصين مكة في 4 محرم سنة 64 هـ (4)، وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد الله بن الزبير ولحق به المنهزمين من أهل المدينة، وقدم عليه نجده بن عامر الحنفي في الناس من الخوارج يمنعوه البيت، وخرج ابن الزبير لقتالهم فحمل أهل الشام عليهم فانكشف أصحاب عبد الله فصاح بأصحابه فأقبل إليه المسور بن مخرمة، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف فقاتلا حتى قتلا وسار بهم بن الزبير إلى الليل ثم انصرفوا عنه. وهذا هو الحصار الأول ثم أقاموا عليه ويقاتلونه بقية المحرم وصفر كله حتى إذا مضت 3 أيام من شهر ربيع الأول سنة 84 هـ رموا البيت بالمنجانيق وحرقوه بالنار وأخذوا يرتجزون.
خطارة مثل الفينق المزبد فرمي بها أسوار هذا المسجد وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه أن ابن الزبير ترك الكعبة ليراها الناس محترقة يحرضهم على أهل الشام.
وأقام أهل الشام يحاصرون ابن الزبير حتى بلغهم نعي يزيد لهلال ربيع الآخر سنة 64 هـ.
اضطراب الأمور بعد موت يزيد واستفحال أمر ابن الزبير (5):
لما مات يزيد بويع في الشام لمعاوية بن يزيد بالخلافة، ولعبد الله بن الزبير بالحجاز، ولما بلغ الحصين خبر موت يزيد وكان قد ضيق الحصار على ابن الزبير تواعد مع ابن الزبير في الأبطح. وعرض عليه الحصين أن يبايعه على شرط أن يسير إلى الشام، وكان يكلمه سراً وابن الزبير يكلمه جهراً فغضب الحصين وقال: قبح الله من يعدك بعد داهياً وأريباً قد كنت أظن ذلك رأياً وأنا أكلمك سراً وتكلمني جهراً وأدعوك إلى الخلافة وأنت لا تريد إلا القتل والهلكة ثم فارقه وارتحل إلى المدينة، فندم ابن الزبير فبعث له أن يبايع له هناك، وكان ابن الزبير يتخوف انقضاض أهل الشام عليه وغدرهم كأهل الكوفة ولكن تقديراته كانت خاطئة فأهل الشام معروفين بالطاعة. ويعلق ابن الأثير ولو خرج معهم ابن الزبير لم يختلف عليه أحداً، وأبى الحصين أن يأخذ له البيعة.
أحوال الولايات:
البصرة: حاول ابن زياد أن يأخذ من الناس البيعة إلى أن يجتمع المسلمون على رجل، فبايعوه لكن داعية ابن الزبير سلمة بن ذوئب الحنظلي التميمي استطاع عزله، واختلف الناس ثم اتفقوا على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ثم زادت الفتن بين الغيسية والأزد.
فكتب عبد الله إلى ابن الزبير فأمر ابن الزبير أنس بن مالك بالصلاة بالناس فصلى فيهم أربعين يوما ثم بعث عليهم عمر بن عيد الله بن معمر أميراً (6).
قنسرين: كان زفر بن الحارث والكلائي يبايع فيها لابن الزبير.
حمص: كان النعمان بن بشير يبايع فيها لابن الزبير.
فلسطين: كان نائل بن قيس يبايع فيها لابن الزبير.
الكوفة: اجتمع الناس وقالوا: نؤمر علينا رجلاً إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فاجتمعوا على عمر بن سعد ثم اجتمعوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي ، وكتبوا لابن الزبير فأقره.
الموصل: استعمل ابن الزبير محمد بن الأشعث بن قيس.
المدينة: استعمل ابن الزبير أخاه عبيدة بن الزبير.
مصر: استعمل ابن الزبير عبد الرحمن بن جحدم الفهري.
خراسان: كان الوالي فيها عبيد الله بن خازم من قبل بن الزبير ومن خلال هذا العرض اجتمع المسلمون على ابن الزبير وأصبح الخليفة الشرعي ولم يخالف إلا الأردن كان حسان بن مالك الكلبي يبايع فيها لبني أمية. وأعاد دمشق فبايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس وهو يدعو لابن الزبير سراً (7).
عبيد الله بن زياد رأس الفتنة الجديد
عندما قدم الحصين بن نمير إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير، وقال له ولبني أمية: نراكم في اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شامكم فتكون فتنة عمياء صماء، وكان من رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة.
قدم ابن زياد من العراق بعد أن خلعه أهلها وبلغه ما يريد مروان فقال له: قد استحييت لك من ذلك. أنت كبير قريش وسيدها تمضي إلى أبي خبيب فنبايعه، وقام مروان وهو يقول ما فات شيء بعد.
بيعة مروان بالشام
اجتمع بنو أمية وحسان وغيرهم بالجابية وكان بعضهم يهوى خالد بن يزيد وخاصة بنو كلب لأنه تزوج منه، ولكن اعتراض البعض الآخر ومنهم الحصين قال: لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبي، فاجتمعوا على مروان بن الحكم (8).
ولم تنتهي سنة 65 هـ (9) إلا وكان مروان قد أخضع الشام ومصر لحكمه ومات في رمضان من هذا العام وكان قد عهد إلى ابنيه عبد الملك وعبد العزيز والذي عليه العلماء والمؤرخون: أن بيعة مروان باطلة لأن ابن الزبير بويع له بجميع الأمصار تقريباً إلا دمشق والأردن، ولذلك فإن الذهبي (10) لا يعد مروان في أمراء المؤمنين، بل باغ خارج على ابن الزبير ولا عهده إلى ابنه صحيح وإنما صحت خلافة عبد الملك من حين قتل ابن الزبير.
اضطراب الأمور بين يدي عبدالله ابن الزبير
فتنة المختار بن أبي عبيد (11):
ولد في السنة الأولى من الهجرة ولقب بكيسان لأنه تلقى العلم عن كيسان مولى علي بن أبي طالب.
أولا كيسان حثه على الأخذ بثأر الحسين. وهو رجل مستعد لفعل كل شيء في سبيل طموحه ولو كان ذلك ادعاء النبوة. ولما انهارت قوى الحسن بن علي أمام معاوية قال لعمه سعد بن مسعود عامل الحسن على المدائن: هل لك في الغنى والشرف؟ قال العم: وما ذاك قال المختار أن توثق لحسن وتستأمن به إلى معاوية، فوبخه عمه. وعندما لم تنجح هذه الطريقة ورأى أن شيعة الحسين بدأوا يزيدون فولج هذا الأمر لبلوغ غايته وأمنياته، وفتح داره لمسلم بن عقيل عندما جاء مبعوثا من الحسين.
وانتهاء إلى عبدالله ابن الزبير وقد أعلن نفسه خليفة فعرض مساعدته عليه وبايع ابن الزبير على ألا يقضى أمرا من دونه وتستعمله على أحسن أعماله إن ظهر فقبل ابن الزبير وأعلنت خلافته وجاءته البيعة من كل مكان، أهمل شأن المختار. فرحل إلى الكوفة مركز الفتن.
وفي الكوفة وجد ثورة التوابين فحاول استغلالها ولكن هؤلاء كانوا قد اختاروا سليمان بن صرد قائلا لهم فانتظر حتى قتل وتشتت التوابون وانتهز الفرصة واستطاع أن يحمل لواء الشيعة وادعى أن له كتاباً من محمد بن الحنفية فيه (12) (من محمد بن المهدي إلى إبراهيم بن مالك بن الأشتر، قد بعثت إليكم بوزيري وأميني الذي أرتضيه) واستشهد جماعة منهم زيد بن أنس وتشكك ابراهيم لأن محمد بن الحنفية لم يكن يكتب مثل هذا الاسم، فسأل الشعبي وكان حاضرا فأخبره الشعبي.
أن هؤلاء سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب ولا يقول مثلهم: لاحقا، وبذلك وصل المختار إلى قمة القيادة وبدأ الأتباع يلتفون من حوله .
وتطور الأمر بالمختار إلى أن ادعى النبوة (13) وأظهر أنواع من الضلالات تبعده عن الإسلام فمن ذلك أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه بالديباج وزينه بأنواع الزينة وقال هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل. وكان إذا حارب خصومه حمله في الصف الأول، وله أسجاع يقلد بها القرآن. وادعى علم الغيب وكان إذا لم تتحقق دعواه قال: قد بدا لربكم… وذلك هو أصل البداء عند الشيعة اليوم، أي أن الله يغير رأيه لأنه يبدو له شيء جديد(14).
وهكذا بدأت الأفكار والعقائد المنحرفة تدخل في فكر الشيعة بعد أن كانوا حزباً سياسياً يرى الحق لآل البيت. واستطاع بتزويره كتاباً عن محمد بن الحنفية أن يضم إليه القائد المهيب ابراهيم بن الأشتر. وبدأ في حركته وأستطاع أن يستولي على الكوفة والموصل والبصرة. وكان الشك يراود الأشتر في تصرفات المختار فهذا الكرسي لون لم يعهده في الحروب الإسلامية.
وبدأ المختار بغزو الشام وأرسل يزيد بن أنس فهزمه عبيد الله بن زياد، ثم بعث ابن الأشتر، وعندما ظهر كذب المختار انتهز أهل الكوفة خروج جيوش المختار وثاروا عليه وأحاطوا بالقصر وأظهروا كذبه وأنه غير مؤيد من ابن الحنفية وبدأ يعمل الحيلة فأرسل سراً يستدعي الأشتر، وكتب للثوار أن يرسلوا وفدا مشتركاً لابن الحنفية وكان يقصد التأخير حتى يصل ابن الأشتر، وعندما عاد ابن الأشتر قاد الجيش المختار وأعطى جزء آخر منه الأشتر وبدأ التنكيل بالثوار ، وأنزل بهم هزيمة شنعاء، ووجدها فرصة لكسب ولاء الشيعة فضل قتلة الحسين وقائد جيش يزيد وهو عمر بن سعد بن أبي وقاص. ولكن لما زادت أباطيل المختار أعلن ابن الحنفية البراءة منه ففتر عنه ابن الأشتر وبدأ نجمه بالأفول، وفي سنة 66 هـ (15).
تولى مصعب بن الزبير ولاية البصرة ومن ثم سار مصعب إلى المختار لقتاله ولما بدت الهزيمة على المختار قال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا بالظفر وأنا سنهزمهم، وقال أما قرأت في كتاب الله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب).
سبب فتنة المختار كما يوضحها هو:
ولما حصر بالقصر قال المختار للسائب أحد أصحابه: ماذا ترى؟ قال: ماذا ترى أنت؟ قال: ويحك يا أحمق إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير قد وثب بالحجاز ورأيت بن نجدة وثب اليمامة ومروان بالشام وكنا فيها كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عنه العرب، ثم تقدم فقاتل حتى قتل سنة 67هـ.
كلمة لا بد منها
إن فتنة المختار وتمكنه من تكوين سلطان خاص به ليدل دلالة واضحة ما آل إليه أمر الخلافة بعد تحولها إلى ملك كل من يفرض نفسه ينتزعها. ويدل دلالة واضحة على تهيوء نفوس الناس إلى الثورة على بني أمية، كما توضح أثر مقتل الحسين عليه السلام وكيف استطاع المختار استغلاله وادعاء النبوة من خلاله وإدخال عقائد فاسدة على المسلمين تطورت عبر الزمن إلى أن تأصلت وتعقدت لدى شيعة اليوم.
كما أنهكت هذه الفتنة ابن الزبير واضطر لتوجيه أخاه مصعب لمحاربته وقتله، وكان مصعب بن الزبير قد أسرف في قتل المختار وأتباعه بعد استسلامهم… وهذا الإسراف في القتل كان سببًا في كره الناس خلافة عبدالله بن الزبير.
***
للتعرف على المصادر والمراجع الخاصة بحلقات معركة الخلافة، الرجاء الضغط هنا.
إعداد: أحمد العبد الجليل
لا توجد مصادر !!!!!!!!
أخي الكريم للتعرف على المصادر اضغط هنا