نبدأ أول أجزاء هذا البحث حول نشأة الدولة العثمانية كإمارة حدود تركمانيَة تعمل في خدمة سلطنة سلاجقة الروم، وترد الغارات البيزنطيَّة عن ديار الإسلام، وبعد سقُوط سلطنة سلاجقة الروم استقلَّت الإمارات التركمانيَة التابعة لها، بما فيها الإمارة العُثمانيَّة، التي تمكنت من السيطرة على كافة الإمارات بِمرور الوقت.
روابط سريعة
نشأة الدولة العثمانية
نشأت الدولة العثمانية كإمارة مستقلة بعد سقوط دولة سلاجقة الروم التي كانت تتبع الخلافة العباسية اسميا، وعندما انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة تحت سيطرة المماليك، لم تكن للدولة العثمانية أي علاقات رسمية أو تبعية للخلافة العباسية او لسلطة المماليك، وانشغلت في الفتوحات في الاناضول وشرق أوروبا، ولكن عند تزايد خطر البرتغاليين وتهديدهم للبلاد الإسلامية، ومحاولتهم هدم قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وسرقة جثمانه الشريف، ولمواجهة الخطر الصفوي الشيعي المتطرف، وتعبيرا عن فائض القوة الذي تمتعت به الدوله العثمانية، واتصال كثير من القوى الإسلامية، كالاشراف الذين يشرفون على الحجاز ويديرون مكة والمدينة لمواجهة خطر البرتغاليين، ولضعف دولة المماليك، قرر السلطان سليم الأول فتح الدول العربية وضمها إلى حكم الدوله العثمانية، وسواء صحت رواية تنازل آخر الخلفاء العباسين له عن الخلافة أو لم تصح إلا أن الواقع الفعلي اعتبر المسلمون في العالم العربي وحتى أواسط آسيا ومسلمي أفريقيا أن الدولة العثمانية هي الدولة الحامية لحوزة وبيضة الإسلام وبلاد المسلمين، فمثلت الخلافة كتمثيل واقعي لعدم وجود قوة مكافئة لها، ويحسب للدولة العثمانية أنها ملئت فراغ القوة، وإلا فقد كانت أحلام الدولة الصفوية تتجه إلى مكة والمدينة، ومحتلف البلاد العربية لنشر التشيع بقوة السلاح، كما نشرته في إيران وجنوب العراق.
- (698-922هـ/1299-1517م) قيام الدولة العثمانية في منطقة الأناضول (تركيا الحالية) وتركزت الفتوحات في شرق قارة أوروبا.
- (922-1340هـ/1517-1922م) السيطرة على معظم البلاد العربية وبروزها كدولة تمثل الخلافة الإسلامية وانتهاء الخلافة العباسية التي كانت تحت سيطرة المماليك في مصر.
الفتوحات الإسلامية
لقد كانت الدولة العثمانية دولة عسكرية بامتياز منذ نشوؤها كامارة تابعة لسلاجقة الروم؛ حيث كان جل مواردها مخصص للإنفاق على الجيوش والحملات العسكرية، وتركزت الفتوحات العثمانية في أراضي الأناضول وشرق أوروبا، ولقد شكلت مدينة القسطنطينية (إسطنبول) قبل فتحها عائقاً أمام توسع وانتشار الإسلام في أوروبا، لذا كان سقوطها بيد الدوله العثمانية عام 1453م عاملاً مهماً ساعد على دخول الإسلام بقوة إلى أوروبا.
لقد سبب سقوط القسطنطينية بيد المسلمين صدمة كبيرة للغرب النصراني، وقد تسلل الخوف والفزع إلى قلوب بعد أن بات للجيش الإسلامي قوة عظمى في أوروبا، وقد عمل أمراء وملوك الغرب جاهدين من أجل استعادة المدينة، إلّا أنه بعد انتهاء مشروع الحملة الصليبية بموت زعيمها البابا، لم يبقى سوى المجر والبندقية تواجهان الدولة العثمانية، أما “المجر” فقد انهزمت أمام جيوش الدوله العثمانية، وأما “البندقية” فقد عقت معاهدة حسن الجوار مع الدوله العثمانية حفظاً لمصالحها.
بعد أن نجحت الدولة العثمانية بالقضاء على الإمبراطورية البيزنطية التي كانت أحد أهم القوى المسيطرة في العصور الوسطى، بدأ العثمانيين بإرساء نظام عالمي جديد، إذ كان سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين عام 1453م نقطة تحول الدولة العثمانية إلى إمبراطورية عظمى بحق.
حتى أن سيطرة المسلمين على القسطنطينية شكلت حدثاً غيّر مجرى التاريخ، إذ اعتبره المؤرخون نهاية للعصور الوسطى وبداية العصر الجديد، وبعد اتخاذها كعاصمة للدولة العثمانية باتت منارة لانتشار الفكر الإسلامي، وملجأ لعلماء ومفكري الأمة الإسلامية آنذاك.
ويمكن تلخيص أبرز نتائج فتح القسطنطينية عام 1453م على العالم الإسلامي وأوروبا بما يلي:
- توحيد الدولة العثمانية في اسيا وأوروبا.
- سقوط الحاجز بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية.
- أصبح للدولة العثمانية مركز تجاري من أعظم مراكز التجارة في العالم.
- استقرار الإسلام وانتشاره في أوروبا.
- أصبح الإسلام أحد أهم محركات السياسة العالمية من جديد، وبات للمسلمين دوراً أساسياً في شتى الأحداث العالمية.
- تحوُّل الملايين من سكَان جنوبي شرقي أوروبا إلى الإسلام.
- بدء عصر النهضة العلمية الحديثة، وللأسف انتقل مشعل النهضة منذ القرن السابع عشر الميلادي بيد الدول الأوروبية، وانشغلت الدوله العثمانية بمواجهة القوى الأوروبية الاستعمارية والمشاكل الداخلية.
- فتحت مدينة القسطنطينية للعثمانيين الطريق لان يصبحوا قوة بحرية هائلة وبناء الاساطيل.
- دراسة بعض الحكومات الاوربية فنون القتال العثمانية من نظام الإنكشارية وقوات المشاة الخفيفة.
بلا شك ما زال تأثير دخول الإسلام إلى القسطنطينية حاضراً إلى يومنا هذا، إذ كان بداية لتفوق الحضارة الإسلامية على أوروبا، وقد أجبر الغرب على القبول بالسيادة الإسلامية.
هذا وشملت الإمبراطورية العثمانية في ذروة توسعها: بلغاريا واليونان والمجر ومقدونيا ورومانيا وألبانيا والبوسنة والهرسك والجيل الأسود وكوسوفو وصربيا وكرواتيا وبولندا وأوكرانيا وجورجيا ومصر وبلاد الشام سوريا والأردن ولبنان وفلسطين وأجزاء من الجزيرة العربية والساحل الشمالي لأفريقيا.
تقدر المساحة الجديدة التي أضافتها الدولة العثمانية للعالم الإسلامي حوالي 2 مليون كم مربع، إلا أنها فقدت معظمها ولم يتبق إلا حوالي 610 الف كم مربع تشمل تركيا الحديثة؛ حيث تبلغ نسبة المسلمين فيها حاليا ما يزيد عن 99% من عدد السكان، كما تشمل كوسوفو التي يزيد عدد المسلمين فيها عن 95%، وألبانيا التي يزيد عدد السكان المسلمين عن 64%، والبوسنة والهرسك التي يزيد عدد المسلمين فيها عن 50%، وهناك أقليات مسلمة كبيرة نسبيا في كل من بلغاريا 13% والجبل الأسود 20% وجورجيا 20%.
الإنجازات الحضارية
اهتمت الدولة العثمانية بالتعليم وأنشأت المدارس، فقد سارع السلطان أورخان بن عثمان لبناء مدرسة إزنيق عام 1321م، وكانت المدارس هي التي تمد الدولة بالموظفين؛ فقد كان السلاطين العثمانيون دائمًا ما يطورون نظام التعليم ويقدمون الدعم له. وقد اهتمت الدولة العثمانية بتدريس العلوم الدينية والدنيوية، وأنشأت الجامعات لتدريس هذه العلوم؛ فقد أُنشئت أول جامعة للطب في الدوله العثمانية أواخر القرن الرابع عشر، في عهد السلطان يلدرم بايزيد، في مدينة بورصة التي كانت عاصمة الدولة العثمانية وقتها، ثم أُنشئ المجمع الطبي في القرن الخامس عشر، كما أُنشئ العديد من الكليات منذ عهد محمد الفاتح حتى سقوط الدولة العثمانية، وكانت هذه الكليات تدرس مختلف العلوم؛ فإحدى هذه الكليات كانت تدرس العلوم الدينية وعلوم الفضاء والرياضيات والاجتماع والحقوق والآداب والطب، وفي عهد الخليفة عبد الحميد الثاني تطور نظام التعليم؛ حيث أَنشَأ العديدَ من المدارس المتوسطة والعليا والمعاهد الفنية لتخريج الشباب العثماني، وإعداده لتولّي المناصب الحكومية والنهوض بالدولة، واهتم السلطان اهتمامًا بالغًا بالمدرسة التي أنشئت عام 1859م، على عهد السلطان عبد المجيد الأول؛ فأعاد تنظيمها وفق خطة علمية، وتحديثها بمناهج دراسية جديدة، وفتح أبوابها للطلاب القائمين في العاصمة، والوافدين من مختلف الأقاليم العثمانية، حتى غدت مركزًا ثقافيًّا هامًّا. وأنشأ السلطان بدءًا من عام 1878م، المدرسة السلطانية للشؤون المالية، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون الجميلة، ومدرسة التجارة، ومدرسة الهندسة المدنية، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الشرطة، ومدرسة الجمارك، كما أنشأ مدرسة طب جديدة في عام 1898م.
وتوّج السلطان عبد الحميد الثاني جهوده في الحقل التعليمي بتطوير “مدرسة إستانبول الكبرى”، التي أنشئت في عهد السلطان محمد الفاتح، وأضحت جامعة إسطنبول، وضمّت في أول أمرها أربع كليّات؛ هي: العلوم الدينية، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والعلوم الأدبية، وعُدّت مدرستا الحقوق والطب كليتين ملحقتين بالجامعة. وتطلبت المدارس الملكية، أو المدنية، بدورها إنشاء عدد من دور المعلمين، لتخريج معلمين أكفاء يتولون التدريس فيها، وكانت أول دار للمعلمين في الدولة قد أنشئت في عام 1848م، على عهد السلطان عبد المجيد الأول، وأضحى عددُها في عام 1908م ثمانيةً وثلاثين دارًا منتشرة في العاصمة وحواضر الولايات والسنجقيات، وأنشأ السلطان عددًا كبيرًا من المدارس الرشدية، التي كانت بمثابة مدارس متوسطة. ومن الجامعات الكبرى التي تأسست خارج الحدود التركية، في أواخر العهد العثماني: الكليّة السورية الإنجيلية، التي أصبحت الجامعة الأمريكية في بيروت، سنة 1866م، وجامعة القديس يوسف، سنة 1874م، وجامعة القاهرة، سنة 1908م، وغيرها. ويفيد بعض الأدباء والمؤرخين، الذين عاصروا أواخر العهد العثماني، أن اليوم الدراسي كان يبدأ بتلاوة سورة الفاتحة، عند المسلمين، والمزمور 23، عند المسيحيين، ثم يتلوها عبارة “عاش مولانا السلطان” (بالتركية العثمانية: پادشاه متشوق يا شاه) ثم تتلوها ترتيلة تركية.
كان من أهم آثار تشجيع العلم وإنشاء المؤسسات التعليمية منذ بداية الخلافة العثمانية أن ظهرت الانجازات العلمية في مختلف المجالات وتطورت في معظم المدن والمناطق التابعة للدولة العثمانية، ولم يقتصر أثر هذه الاختراعات والاكتشافات على المسلمين أو من يسكنون المناطق التي يحكمها العثمانيون بل كانت فائدة هذه الانجازات على مستوى العالم حيث ساهمت في تشكيل نواة مجالات العلم الحديث.
….
تابع قراءة الجزء الثاني من البحث: أبرز الإنجازات العلمية والحضارية
تابع قراءة الجزء الثالث من البحث: التهديدات الداخلية والخارجية